فى قلب جنوب سيناء، وعلى قمة جبل مقدس باركه الرب فى تجلياته، يرقد دير سانت كاترين، أحد أقدم الأديرة العامرة فى العالم، وأقدسها فى التراث المسيحى الأرثوذكسى. لكن بين صمت الجبال وصدى الأجراس، تدق أزمة جديدة أبواب هذا الصرح المقدس، مهددة بتغيير ملامحه التى حفظتها الأجيال لقرون.
اثار الجدل تقارير عن مساعٍ من السلطات المصرية في محافظة جنوب سيناء لمصادرة دير سانت كاترين التاريخي، التابع إداريًا للكنيسة اليونانية، وانتزاع الأراضي المحيطة به، أكّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال اتصال مع رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس، التزام مصر الكامل بالحفاظ على المكانة الدينية المقدسة والفريدة للدير، وعدم المساس بها.
وجاءت ذلك بعد اصدار حكم قضائي من محكمة استئناف الإسماعيلية، في دعوى تتعلق بالنزاع حول عدد من قطع الأراضي بمنطقة سانت كاترين، وقضت المحكمة بأحقية تابعي الدير في الانتفاع بالدير والمواقع الدينية الأثرية المرتبطة به، مع التأكيد على أن ملكية الدولة لهذه المواقع تظل قائمة، بوصفها من الأملاك العامة، كما شددت المحكمة في منطوق حكمها على ضرورة احترام العقود المُبرمة بين الوحدة المحلية لمدينة سانت كاترين والدير، والخاصة ببعض الأراضي التي يستغلها الرهبان، ما ينفي وقوع أي تعدٍّ من جانبهم أن الأراضي الأخرى المتنازع عليها تقع ضمن نطاق المحميات الطبيعية، وهي أيضًا من أملاك الدولة العامة التي لا يجوز تملكها أو التصرف فيها، ولم تُحرر بشأنها أي عقود رسمية من الجهات المختصة، وعقب صدور الحكم، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حالة من الجدل، وتداولت منشورات تفيد بأن السلطات تنوي إخلاء الدير وانتزاع أراضيه لصالح مشروعات تنموية أو استثمارات محتملة، وهو ما زاد من حدة التوتر.
بُنى دير سانت كاترين فى القرن السادس الميلادى بأمر من الإمبراطور البيزنطى جوستنيان، لحماية الرهبان القاطنين عند جبل موسى، حيث تسلم النبى موسى لوحى الشريعة. يحتفظ الدير بمخطوطات نادرة، وأيقونات أثرية، ومكتبة تُعد الثانية عالميًا بعد الفاتيكان من حيث الأهمية..
وقال ماجد كامل الباحث في التاريخ القبطي،تُعد مكتبة دير سانت كاترين من أبرز وأهم المكتبات التراثية على مستوى العالم، لما تحويه من مخطوطات نادرة وقيمة، تُقدَّر بنحو ثلاثة آلاف مخطوط مكتوب بـ12 لغة مختلفة. تُشكّل المخطوطات اليونانية ما يقارب ثلثي المجموع، فيما تُوزع البقية بين اللغات العربية، القبطية، السريانية، الأرمنية، الجورجية، الفارسية، التركية، وغيرها.
وتابع فى تصريحات خاصة ل" الفجر" تُعد هذه الوثائق ذات أهمية كبرى في المجالات الدينية والتاريخية والعلمية، وخاصة المخطوطات العربية، التي تُعد من أندر ما وصلنا من التراث العربي المسيحي والإسلامي، ويُذكر أن عالم اللغات الشرقية الراحل، الدكتور مراد كامل (1907–1975)، كلّف عام 1951 بعمل جرد لمحتويات المكتبة، وقد وثّق وجود 549 وثيقة باللغة التركية، و1067 وثيقة باللغة العربية، أقدمها يعود إلى العصر الفاطمي عام 542 هـ (الموافق 1130 م). كما تضم المكتبة 500 وثيقة سريانية، و120 وثيقة أرمنية، بينما تحتل الوثائق اليونانية الصدارة بعدد يصل إلى 2319 وثيقة.
من بين أندر الاكتشافات التي ظهرت في مكتبة دير سانت كاترين، نسخة فريدة من الكتاب المقدس تُعرف بـ "المخطوطة السينائية" (Codex Sinaiticus)، والتي اكتشفها الباحث الألماني تشنيدورف (C. Tischendorf) أثناء زيارته للدير عام 1896. هذه المخطوطة مكتوبة بخط اليد على رقائق من ورق البردي، ويُعتقد أن تاريخها يعود إلى القرن الرابع الميلادي. وقد تم بيعها للقيصر الروسي ألكسندر الثاني مقابل 8000 فرنك، لتُودَع لاحقًا في مكتبة بطرسبرغ (لينينغراد سابقًا). وفي عام 1933، حصل عليها المتحف البريطاني مقابل 100،000 جنيه إسترليني، حيث لا تزال محفوظة هناك حتى الآن.
كذلك تضم المكتبة مخطوطة سريانية نادرة تُعرف باسم "Codex Syriacus" للتوراة، تعود إلى القرن الخامس الميلادي، وهي مأخوذة من نص يوناني أقدم يُرجّح أنه من القرن الثاني. وقد اكتشفتها الباحثتان الإنجليزيتان أغنيس سميث ومرغريت جيبسون عام 1893، وهي محفوظة حاليًا في صندوق خشبي أنيق داخل مكتبة الدير.
كما تضم مكتبة الدير مجموعة ثمينة من المخطوطات المسيحية باللغة العربية، تُعد من أقدم ما وصل إلينا من هذا النوع، من بينها نسخة من الأناجيل الأربعة مكتوبة بالعربية تعود لعام 897م أما فيما يخص التراث الإسلامي، فمن أشهر الوثائق المحفوظة في المكتبة ما يُعرف بـ "العهدة النبوية"، وهو نص منسوب إلى النبي محمد (ﷺ)، يُقال إنه أعطى فيه أمانًا لرهبان الدير في السنة الثانية للهجرة. وتُشير الروايات إلى أن السلطان سليم الأول استولى على النسخة الأصلية أثناء دخوله مصر عام 1517م، وأخذها إلى إسطنبول، تاركًا للرهبان نسخة مترجمة إلى التركية، كما تحتفظ المكتبة بعدد من الوثائق الرسمية الأخرى، منها منشور من الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله يعود إلى عام 564 هـ (1169م)، وفرمان صادر عن السلطان مصطفى الأول عام 1618م، وكذلك منشور من نابليون بونابرت مؤرخ في 20 ديسمبر 1799م، واحدة من أبرز دلائل التعايش الديني في دير سانت كاترين، وجود مسجد داخل أسواره بُني في العصر الفاطمي عام 1106 ميلادية، بأمر من الوزير الفاطمي أبو جعفر أنوشكين، في عهد الخليفة الآمر بأحكام الله، وذلك لخدمة العربان والبدو الذين كانوا يقدمون المساعدة للدير.
وكان أعلن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في بيان رسمي، أن الكنيسة تتابع عن كثب تطورات الوضع المتعلق بدير سانت كاترين في جنوب سيناء، مؤكدة تقديرها لموقف الدولة في الحفاظ على قدسية الدير وعدم المساس بالحياة الرهبانية فيه..
وقال الباحث القبطى مينا صبحى، فى تصريحات له وتُعتبر أرض سيناء ذات أهمية دينية بالغة لدى أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، حيث تُشير الروايات التوراتية والإنجيلية والإسلامية إلى أن الله ظهر لموسى النبي في جبل سيناء، وهناك تسلم لوحي الشريعة. كما يُعتقد أن النبي إيليا سمع صوت الله في جبل حوريب – وهو الاسم التوراتي لجبل سيناء ما يعكس قدسية هذه الأرض لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء،وبحسب مصادر كنسية، فقد بدأ النُساك المسيحيون يتوافدون إلى هذه المنطقة منذ القرن الثاني الميلادي، بحثًا عن حياة العزلة والنسك والتفرغ للصلاة، وكانوا يسكنون قرب جبل التجلي. ومع مرور الوقت، ازداد عددهم، لكنهم تعرضوا لمضايقات واعتداءات من بعض القبائل، ووقعت مذابح عدة ذُكرت في كتاب "تاريخ سيناء والعرب" للمؤرخ نعوم شقير.
وتُشير الروايات التاريخية إلى أن الملكة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين، زارت المنطقة عام 336 ميلادية، وشيدت برجين لحماية النُساك، كما أسست أول كنيسة بالمنطقة عُرفت بـ "كنيسة العليقة"، نسبةً إلى العليقة المشتعلة التي تجلّى فيها الرب لموسى النبي،وفي منتصف القرن السادس، وبعد أن أصبحت المسيحية ديانة الدولة الرسمية، طلب النُساك من الإمبراطور جستنيان بناء حصن يحميهم من الاعتداءات المتكررة. فقام الإمبراطور ببناء الدير حول كنيسة العليقة نحو عام 545 ميلادية، وأرسل معهم مئتي جندي من القسطنطينية ومصر لحمايتهم، كانت تصرف لهم مؤن سنوية من القمح المصري، ومنذ ذلك الوقت، لم ينقطع الوجود الرهباني في الدير، وظل صرحًا حيًا للصلاة والتسبيح والتأمل، رغم ما مرّ به من أزمات.
كان يُعرف الدير في بدايته باسم "دير الطور"، نسبة إلى جبل الطور، لكن في القرن التاسع الميلادي تغيّر اسمه إلى "دير سانت كاترين"، بعد أن نُقلت إليه رفات القديسة كاترين الإسكندرانية، والتي تُعد من أشهر شهيدات المسيحية. وقد بُنيت كنيسة خاصة داخل الدير على اسمها، ومنذ ذلك الحين حمل الدير هذا الاسم.
دير سانت كاترين ليس فقط مَعْلمًا أثريًا أو دينيًا، بل هو شاهد حيّ على قرون من التعايش، والصمود، والتاريخ الروحي العميق الذي يربط الأرض بالسماء. ومن هنا، تتعامل الكنيسة القبطية مع قضيته باعتبارها قضية مقدسة تتجاوز الجغرافيا والسياسة، لتلامس وجدان كل من يعرف قيمة هذا الدير العريق.
0 تعليق