د. جاسم المناعي*
بالرغم من أن العالم قد شهد عدة مراحل مختلفة لمسيرة العولمة فإن انضمام معظم دول العالم إلى منظمة التجارة العالمية التي أنشئت في عام 1995 كان علامة مهمة جداً في مجال حرية التجارة وانتقال الأفراد ورؤوس الأموال بين الدول. ولا شك أيضاً أن انضمام الصين إلى عضوية منظمة التجارة العالمية فى عام 2001 قد زاد من زخم انفتاح أسواق العالم على بعضها، وأعطى دفعة كبيرة للتجارة العالمية، نظراً لما تمثله الصين بالنسبة للإنتاج والتجارة العالمية. وقد كان للعولمة على الأقل خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية أثر كبير في انتقال الاستثمارات بين الدول، حيث استقبلت كثيرٌ من البلدان، خاصة الدول النامية، استثمارات مهمة أدت إلى بناء وإنشاء صناعات متنوعة وفقاً للمزايا النسبية لهذه البلدان، سواء بسبب توفر الموارد الطبيعية المهمة أو بسبب قلة تكاليف الخدمات والموارد البشرية والأيدي العاملة. وقد أدت هذه التطورات إلى تحسن ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لكثير من الدول النامية. كما أدى ذلك إلى تنافس بين الدول في مجال استقطاب مزيد من الاستثمارات، الأمر الذي ساعد في توفر وتنوع كبير في المعروض من المنتجات، وعمل على استقرار أسعارها لفترة ليست بالقصيرة. إلا أن العولمة مع ذلك قد تعرضت في مراحل زمنية معينة إلى بعض الانتكاسات والتراجعات.
ففي خلال الفترة ما بين 2020 _ 2023 شهد العالم تفشي عدوى مرض «كورونا»، الذي أثر سلباً في كثير من الأنشطة الاقتصادية المعتادة. فقطاع الطيران على سبيل المثال تضرّر كثيراً نتيجة تردد الأفراد عن السفر خوفاً من عدوى هذا المرض، كذلك بالنسبة لقطاع المطاعم والفنادق، حيث حاول الكثير من الناس تجنب ارتياد هذه الأماكن وعدم الاختلاط قدر الإمكان. كذلك اضطرت عدة قطاعات اقتصادية أخرى إلى تقليص نشاطها، وفى بعض الحالات إلى تسريح بعض من موظفيها، كما لجأت قطاعات أخرى إلى الاعتماد على إنجاز أعمالها عن بعد بدلاً من حضور موظفيها إلى مكاتبهم كما هو معتاد. وبالطبع فإن جميع هذه الإجراءات قد حدّت من وتيرة الأنشطة الاقتصادية المعتادة، وتراجعت على أثرها حركة التجارة وتنقل الأفراد ورؤوس الأموال، الأمر الذي أثر بدون شك في مسيرة العولمة في تلك الفترة. الحدث الآخر الذي أثر في تراجع العولمة إلى حدٍّ ما هو الحرب في أوكرانيا، حيث انقطعت إمدادات كثير من الحبوب والمواد الغذائية، ما أدى إلى نقص المعروض، وارتفاع أسعارها في الأسواق العالمية. كل هذه الأحداث التي تم ذكرها والتي أثرت سلباً في مسيرة العولمة لم تؤدِّ مع ذلك إلى القضاء على ظاهرة العولمة، حيث استطاع العالم من ناحية أن يتجاوز آثار مرحلة انتشار عدوى «كورونا»، كما استطاع التغلب على أهم العقبات التي صاحبت الحرب في أوكرانيا وتأثيرها في سلاسل إمدادات الحبوب والمواد الغذائية، إلا أن العولمة مع ذلك أصبحت تواجه مؤخراً تحديات جديدة من نوع آخر، حيث إن حرب الرسوم الجمركية التي شرعها الرئيس الأمريكي تتعارض مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تمّت حول حرية التجارة تحت مظلة منظمة التجارة العالمية بل إن ذلك ينسف المعاهدات والمواثيق التي أبرمت في هذا الخصوص. كما أن دور منظمة التجارة العالمية أصبح مهمشاً وفقاً لذلك. وبدلاً من أن تكون قوانين حرية التجارة ذات صبغة جماعية سوف تكون حسبما يبدو ووفقاً لهذه التطورات الأخيرة على أساس اتفاقيات ثنائية لا تعكس بالضرورة مصالح الأطراف المتعاقدة بشكل عادل، بقدر ما تخضع لقوة النفوذ السياسي للأطراف المعنية. ومهما يكن من أمر فإن الكثير من الدول قد تكون مضطرة للقبول بالأمر الواقع وإن كان هذا الأمر مجحفاً بحقها على ألّا تخسر تماماً أسواقاً مهمة تعتمد عليها في تصريف منتجاتها وعمل مصانعها ومؤسساتها. وفى اعتقادنا فإن مثل هذا الوضع الذي يقوم على فرض القوة والإكراه في العلاقات التجارية الدولية من غير المرجح أن يستمر، وإن قبلت به بعض الدول مضطرة إلى حين تسوية وإعادة ترتيب أوضاعها. لذلك فإن هذه الأوضاع المستجدة والتي نتجت عن انتهاج أمريكا لسياسات تجارية حمائية ورسوم جمركية تتعارض مع ما اتفق عليه في مجال حرية التجارة ووفقاً لقوانين منظمة التجارة العالمية، وإن كانت تمثل هذه ضربة قاصمة لمسيرة العولمة إلا أنها لن تدوم طويلاً، وسيتمكّن العالم عاجلاً أم آجلاً من تجاوز هذه المرحلة والعودة إلى الوضع الطبيعي في مجال حرية التجارة والعمل وفقاً للقوانين والأعراف المتفق عليها في العلاقات الاقتصادية الدولية.
* الرئيس السابق
لصندوق النقد العربي
0 تعليق