28 مايو 2025, 6:10 صباحاً
في لحظة صدق مع النفس، قد نكتشف أن بعض اختياراتنا لم تكن لنا تماماً، بل لأشخاص أو بيئات سبقتنا. هل أنت حيث أنت لأنك أردت؟ أم لأنك نشأت هناك؟
بعض القرارات التي نظن أننا اتخذناها بأنفسنا، قد لا تكون لنا فعلاً. نختار مساراً دراسياً أو مهنياً، نظن أنه الأنسب، بينما هو في الحقيقة الأكثر رسوخاً في ذاكرتنا، الأشد التصاقاً بمشهد الطفولة، والأكثر ألفةً لقلوبنا، وإن لم يكن الأصدق مع ميولنا.
هذا ما يُعرف في علم النفس والسلوك الاجتماعي بـ Legacy Effect، أو "تأثير الإرث". ويُقصد به الميل اللاشعوري لدى الأفراد إلى تكرار المسارات التي نشأوا في ظلها، سواء كانت مهنية، أو اجتماعية، أو حتى عاطفية. ليست بالضرورة أنها الأنسب، بل لأنها الأكثر رسوخاً في الذاكرة، والأكثر ألفة في الشعور.
يظهر هذا التأثير حين يتبع الأبناء خطى من سبقوهم، لا بدافع القناعة، بل بدافع التعود. هو ميلٌ لا شعوري لتكرار النموذج الذي كبرنا في ظله، سواء كان نموذجاً مهنياً، أو نمطاً للحياة، أو أسلوباً للتفكير. وقد نرى الابن الذي اختار الطب لأن والده طبيب، أو الابنة التي التحقت بإدارة الأعمال لأنها نشأت وسط حوارات والدها عن الأرباح والخطط، أو الشاب الذي انخرط في التجارة لأنه نشأ في بيتٍ لا يعرف الوظيفة. وهنا، لا تُطرح المشكلة في مجرد "الاقتداء" أو "الاستلهام"، بل في تضاؤل المسافة بين الألفة والقناعة؛ حين نظن أننا اخترنا، بينما نحن فقط نسير على أثر خفي، ممهَّد برغبات غيرنا، لا رغباتنا.
الطفل الذي يتردد على عيادة والده ليراه يلبس المعطف الأبيض، يُصفق له المرضى، ويحظى بالاحترام، تتشكل لديه صورة لا واعية عن النجاح. ليس بالضرورة أن يرغب في مهنة الطب، لكن "نموذج النجاح" بات واضحاً ومربوطاً بهذه الصورة. حين يكبر ويختار الطب، قد يظن أنها رغبته، بينما هي انعكاس لتجربة رسخت في عمرٍ لم يكن فيه قادراً على التمييز بين الإعجاب والرغبة. وهكذا، نرى جيلاً بعد جيل، يعيد نفس القصص، بنفس النهايات، وربما بنفس الإحباطات، لأن المسار لم يكن خياراً صافياً، بل امتداداً لإرث عاطفي غير مرئي.
وهنا قد يتساءل البعض: هل للوراثة دور في هذا؟
في الواقع، الوراثة قد تلعب دورًا في تشكيل بعض السمات الشخصية أو الميول الفطرية، كالميل للتفكير التحليلي، الحس الإبداعي، أو حتى حب القيادة. لكن ما يُشكل قراراتنا الفعلية في الغالب هو البيئة التي نشأنا فيها. فنحن لا نرث المهنة، بل نرث صورتها، ورمزيتها، والألفة المرتبطة بها. وهنا يتجلى الفرق بين ما نملكه وراثيًا، وما نختاره فعليًا بفعل التأثير الاجتماعي واللاوعي.
تأثير الإرث لا يتوقف عند المهنة أو المسار الدراسي. بل يمتد ليشمل نظرتنا للحياة، لطريقة إدارة العلاقات، لفهم النجاح، بل حتى لفهم الذات. فمن نشأ في بيت يُمَجَّد فيه العمل الشاق و"الكفاح الصامت"، قد يتردد في طلب المساعدة، ويشعر بالذنب تجاه الراحة. ومن نشأ في أسرة تحسم مشاعرها بالصمت أو السخرية، قد يجد صعوبة في التعبير العاطفي، أو يميل لنفس الأسلوب دون وعي.
هكذا، يُشكّل الإرث طريقة تفكير، وليس فقط خيار مهنة. وتظهر بصماته في اختياراتنا اليومية: في طريقة تعاملنا مع المال، في موقفنا من الزواج، في فهمنا لدورنا كرجال أو نساء، بل حتى في حجم طموحنا أو خوفنا من التغيير. واللافت أن هذا التأثير غالباً لا يُكتشف إلا حين نصطدم بتجربة جديدة، أو نشهد مساراً مختلفاً لدى شخص آخر، فنبدأ في التساؤل: لماذا اخترت هذا الشكل من الحياة؟ هل كان هناك طريق آخر ممكن؟
في أحاديثي مع من يطلبون التوجيه النفسي أو يسعون لفهم ذواتهم بشكل أعمق، أو أحاديث الأصدقاء، أو حتى داخل أروقة الجامعة، تتكرر قصص لأشخاص ساروا في مسارات لا تشبههم، لكنهم لم يدركوا ذلك إلا متأخراً. شخص أنهى دراسة تخصص مرموق اختاره لأنه "كان موجودًا دائمًا في البيت"، لا لأنه يعبّر عنه. وشخص آخر انخرط في مشروع عائلي لأنه لا يتخيل نفسه خارج هذا السياق، رغم أنه لا يشعر بالحماس أو الانتماء. وهناك من يعيش صراعاً داخلياً لا يراه الآخرون: نجاح خارجي، وارتباك داخلي. لأن الطريق الذي يسير فيه لم ينبع من اختياره الحر، بل من صورة تربى عليها، أو سقف طموح حُدد له قبل أن يعي قدراته الحقيقية.
هذه القصص تتكرر بهدوء، وغالباً ما تُغلف بالصمت أو التبرير، بينما جذورها الحقيقية تعود إلى ما يمكن تسميته بـ "الإرث الخفي".
ومع ذلك، يمكن ملاحظة تحول تدريجي في هذا النمط، خصوصاً في العصر الحديث. أصبح كثير من الشباب اليوم أكثر وعياً بذواتهم، وأكثر جرأة في كسر التوقعات العائلية أو المجتمعية. تتراجع الحاجة إلى السير في مسارات مألوفة فقط لأن "ذلك هو المعتاد"، ويزداد الإصرار على البحث عن الشغف والاختيار الحر. التعليم، والانفتاح على العالم، والتجارب المتنوعة، ساهمت في توسيع خيارات الأفراد، وفي رفع مستوى وعيهم بأن ما ورثوه لا يجب أن يكون قدرهم.
لكن التحرر من تأثير الإرث لا يعني بالضرورة رفضه أو التنصل منه. ففي كثير من الأحيان، يحمل هذا الإرث خبرات ثمينة، وأسساً صلبة، يمكن البناء عليها لا محوها. يمكن للابن أن يختار طريقاً مختلفاً، لكنه يظل يحمل مهارات تعلمها من بيئته الأولى. ويمكن للابنة أن تبتعد عن المهنة العائلية، لكنها تستفيد من القيم التي نشأت عليها، ومن رؤية والديها للحياة والعمل. الفكرة ليست في القطيعة، بل في الوعي؛ في أن نُميز بين ما نأخذه بإرادتنا، وما نحمله دون أن ننتبه؛ في أن نعيد ترتيب العلاقة بين ما ورثناه، وما نريده فعلاً، بحيث لا نصبح نسخة مكررة من الماضي، ولا غريبة عنه تماماً.
الوعي بتأثير الإرث لا يعني بالضرورة أن نرفض كل ما ورثناه، بل أن نسأل أنفسنا بصدق: لو لم يكن أبي مهندساً، هل كنت سأختار الهندسة؟ لو لم تكن أمي رائدة أعمال، هل كنت سأميل للمجال التجاري؟ هل هذا المسار يُشبهني فعلاً، أم يُشبه الذاكرة التي أحبها؟ قد نرث مهنة، أو نمطاً، أو طريقة في التفكير، لكننا لا نُجبر على تكراره. لدينا دائماً فرصة للانتباه، للمراجعة، وللسير في طريق مختلف، إن كان هذا الطريق يُشبهنا أكثر.
الوعي هو بداية التحرر من الأثر الذي لم نختره، وليس هناك ما هو أصدق من مسار نرسمه بأيدينا، لا بذكريات غيرنا. كما أن تأثير الإرث لا يعني أن ما ورثناه لا يناسبنا. أحياناً، يكون هو الأقرب لنا فعلاً. لكن التحدي يكمن في النية: أن نُدرك لماذا اخترنا ما اخترناه. أن نستمر في الطريق القديم عن قناعة، لا عن تلقين. وأن نملك الشجاعة لنرسم مساراً جديداً، إن لم نكن نُشبه المألوف. فبهذا، نرث بوعي..لا بتكرار.
0 تعليق