هل تنتهي الصدمة عندما ننساها؟: رحلة فيما تخبئه الذاكرة ولا ينساه الجسد - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

السبت 31 مايو 2025 | 03:34 مساءً

هل تنتهي الصدمة عندما ننساها؟ رحلة فيما تخبئه الذاكرة ولا ينساه الجسد

هل تنتهي الصدمة عندما ننساها؟ رحلة فيما تخبئه الذاكرة ولا ينساه الجسد

كتبه - الأخصائية النفسية روفيدا محمد

كثيرا ما نسمع جملة ' تكبر وتنسى' أو 'الوقت ينسيك' وقد تتساءل أي مقياس يمكن أن نقيس به مدى صدق هذه الأقاويل هل العلم أم التجربة؟ تشير الأبحاث في علم النفس العصبي إلى أن الصدمات النفسية لا تختفي بمجرد أن نتوقف عن تذكرها، بل قد تستمر خفية في تشكيلنا من الداخل والتحكم في ردود أفعالنا وتوجيه قراراتنا وإعادة برمجة نظرتنا لذواتنا، الآخرين والعالم من حولنا، معيدة بذلك أيضا تشكيل القيم الشخصية بعد كل تجربة مؤلمة لم تُعالج، لكن كيف تؤثر الصدمة على الدماغ ولماذا قد تتحول إلى اضطراب جسدي أو ادمان أو انسحاب اجتماعي، وما الذي تمثله لحظة الاعتراف مقابل لحظة النسيان في ميزان التعافي؟

بين ما نتذكره وما ننساه

يخزن الدماغ البشري المعلومات باستمرار وغالبا ما تتم العملية في الذاكرة بشكل منظم وأكثر سلاسة، حيث يقوم الدماغ بتسجيل التفاصيل المتعلقة بالحدث صور، أصوات، مشاعر وأفكا، ويتم التخزين استنادا لأهمية الذكرى ومدى معالجتها وتكرارها فالدماغ هنا يقوي ما نكرره ونحتاجه وينسى ما ليس ضروريا جدا، والفرق الرئيسي هنا يكمن في طبيعة الذكرى كذلك، فالذكريات الصادمة لا تخزن بهذه البساطة بل يخوض معها العقل رحلة من اللاوضوح.

تمر الذكريات العادية عبر مراكز لذاكرة في الدماغ مثل الحصين ويتم في النهاية دمجها داخل سياق واضح ومشاعر مفهومة مما يسهل علينا تذكرها لاحقا واسترجاعها، أما الذكريات الصادمة فتخزن غالبا بطريقة غير مكتملة وذلك بسبب فرط نشاط الجهاز العصبي أثناء وقوع الحدث الصادم، فيخزن جزء منها في المناطق العصبية المسؤولة عن تنظيم الانفعالات والاستجابة للأخطار كاللوزة الدماغية، وكلما كان الحدث متكررا أو قويا كلما زاد من احتمالية عدم وصول الذكرى الى منطقة الذاكرة الواعية، هذا ما يجعل استرجاعها أو تذكرها صعبا وهذا بالضبط ما يحدث مع الأفراد المصدومين وكأنه شبه فقدان للذاكرة، وحتى لو نسينا تفاصيل الحدث في الوعي ولكن مناطق الدماغ المسؤولة عن الاستجابة للإنذار ما تزال تشعر بالتهديد وتستثار وهذا ما يؤدي لردود فعل نفسية وجسدية من الصعب التحكم بها.

أثر الصدمة على الجسد

رغم مرور الوقت، وقدرتنا على مواصلة الحياة، وانتهاء الحدث الصادم ولكن هذا لا يعني أن الصدمة انتهت أو أن أثرها قد زال. لكن الحقيقة أن الجسد غالبًا ما يحمل ما لا ننتبه له، فحتى عندما نعتقد أننا نسينا، يبقى هناك شيء في داخلنا يتفاعل بصمت. التوتر المزمن الذي نظنه طبيعة بشرية، الانقباض في الصدر، الأرق المستمر، التقلبات المزاجية المهولة، أو حتى بعض الألآم الجسدية المتكررة. فقد نخفي كل هذا أما ذاكرة الجسد فلا تُجيد الكذب ولا تنسى. الصدمة التي لم يتم التعامل معها بشكل آمن وواعٍ، في الغالب لا تختفي، بل تتخذ أشكالًا أخرى: في ردود فعلنا، نظرتنا للذات الدونية والعالم بإحباط، في إحساسنا الدائم باليقظة أو الخوف والتهديد، الشعور بعدم الانتماء، اضطرابات التعلق نوبات الهلع وحتى مشاكل الجلد والمناعة وغيرها كلها بقايا لصدمات لم يُسمح لها بأن تُفهم أو يُعبَّر عنها.

فبعد الصدمة، لا يعود الجسد كما كان من قبل. حتى لو بدا الشخص هادئًا ظاهريًا، فإن جهازه العصبي يبقى في حالة تأهب داخلي، فالدماغ وتحديدًا اللوزة، تحتفظ بالذكريات مشحونة بمشاعر الخطر، فلا تتوقف عن ارسال إشارات للجسم بأنه 'في خطر محتمل' لكنه غير حقيقي هذا ما يفسّر التوتر المستمر، صعوبة الاسترخاء، الحساسية الزائدة للأصوات والأحداث، وهنا يعيش الإنسان فيما يشبه 'وضعية الكر والفر'، حيث يصبح الجسد مستعدًا للقتال أو الهروب، حتى وهو في مكان آمن وكل هذه الأمثلة تؤكد لنا بأن الصدمة ليست فقط ما حدث معك، بل ما يحدث معك.

فهم الفرق بين تجاهل الألم ومعالجته

يرى علم النفس أن تربية الذات على تجاوز الألم دون العمل عليه ليس السبيل الأمثل للتعافي منه، فالحقيقة أن تجاهل الألم الناتج عن الصدمة لا يُعالجها، بل يجعل منها جزء قديما معفنا حيا، ويفسر ذلك من المنحى العلمي بآليات الدفاع النفسية، مثل الكبت أو التجنب. وهي آليات مؤقتة قد تساعد في الاستمرار لفترة، لكنها لا تؤدي إلى الشفاء الحقيقي. فالعلاج يتم من خلال تعديل في مسارات الذاكرة وخاصة العاطفية، حيث يتم تنشيط مراكز الدماغ المسؤولة عن التنظيم العاطفي، مثل قشرة الفص الجبهي، ويتم إعادة ربط الذكريات الصادمة بسياقها الزمني والانفعالي الطبيعي بعبارة أخرى، العلاج النفسي لا يهدف لمحو الذكرى المؤلمة، بل إلى جعلها أقل تهديدًا للجهاز العصبي وهذا ما تحققه تقنيات العلاج المعرفي السلوكي مثل التفريغ العاطفي، إعادة البناء المعرفي، دحض المعتقدات المشوهة.

خطوات بسيطة لفهم الصدمة والتعامل معها

لا يحتاج فهم الصدمة إلى خطوات معقدة بل يبدأ بنظرة متفحصة صادقة للداخل الإنساني، أول خطوة هي الاعتراف بوجود أثر لم يُفهم بعد، ليس من الضروري أن نعرف كل التفاصيل، أو أن نتمكن من سرد الحدث أو مجموعة الأحداث على نحو كبير من الدقة والتنظيم، فقط يكفي أن نعترف بأن هناك شيئًا ما لم يُهضم عاطفيًا أو جسديًا.

ثانيًا، نحتاج إلى المراقبة بدون حكم كيف يتفاعل جسدي في مواقف معينة؟ ماهي أول فكرة تخطر ببالي بعد مواقف معينة؟ متى أشعر بتغير في نبضي؟ هذا الوعي الجسدي هو اللغة الأولى الصادقة التي يخاطبنا بها الألم. ثالثا البحث عن لحظات ولو قصيرة نشعر فيها بالهدوء، سواء عبر التنفس، أو المشي، أو الحديث مع شخص آمن. هذه اللحظات تُعيد للجهاز العصبي إشارات الطمأنينة وتدربه على أنه لا وجود لخطر محتمل وكل ذلك كان وهمًأ. أخيرًا، من المهم أن نمنح أنفسنا فرصة للتجريب والتدريب لا تُقاس رحلة الشفاء بكم الوقت الذي نقضيه فيها، بل بالعمق والصدق في الفعل والشعور والمساعدة المتخصصة – سواء عبر العلاج النفسي أو الإشراف الدوائي الطبي– قد تكون المفتاح لإعادة الربط بين ما حدث، ومن نحن اليوم. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق