ومن الكُتب التي ما زلتُ محتفظاً بها، وأحفظ بعضاً مما ورد فيها، كتاب (الفنون) لأبي الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي، ففيه من الردود، والأشعار، والمواعظ، والفتاوى؛ والتاريخ؛ والأشعار، والفقه؛ والأصول، والحِكم والمناظرات ما يأسر اللب، وهذا تأكيد على موسوعية الرجل، وربما بلغ كتابه 800 مجلّد.
للفقه في دين الله أثر في التقدميّة في التفكير، والطرح، ولعلها متجذرة في ملكات بعض النوادر، وهناك شواهد، تاريخانية؛ منها ما وقع في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأثناء نقاش الصحابة عند فتح العراق، في العام السابع عشر الهجريّ؛ حول تقسيم الأراضي التي غنموها، حضر الفقه التقدمي، وقدّم رؤية تراعي المصلحة العامة، فبدلاً من تخميس الغنائم، ومعظمها أراضٍ زراعية، لا يتقن من سيقتسمها التعامل معها، كونه مقاتلاً لا حِرَفياً، فتم الاتفاق على وقفها، وتحويل ريعها لبيت المال.
وبحكم التخصص، درسنا ودرّسنا مسائل فقهية افتراضية، لا حصر لها في فقه العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والجنايات والحدود، ولعل بعض الفرضيات لم يقع في عصر الفقيه المُفترِض، لكنهم تصوروا إمكانية وقوعها، فوضعوا لها أحكاماً من خلال الاجتهاد الفرعي، المشمول بدلالة اللفظ العامة، (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) أو القياس.
وربما عطّلت مقولة (لا اجتهاد مع النص) فقهاء لديهم من سعة الأفق، وذهانة العقل ما يجعلهم جهابذة عصرهم، إلا أنهم آثروا السلامة بالسير (على خطى المرحوم) دون التفات لمعطيات ومنتجات عصرهم، ومن احترام وتقدير النصوص الاجتهاد فيها، وإعمال العقل بها، فالاجتهاد النوعي يحرر النصّ الشرعي من أسر الانغلاق، ويفكه من احتكار فقهاء ما زالوا يرددون (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) مؤثرين التريّث كونه مناط السلامة.
وربما من واجب الفقهاء أن يسبقوا المجتمعات، والعلماء والمخترعين والمكتشفين بفتاوى وطرح، يؤكد أن الفقيه يعيش عصره ويتمثّل واقعه، ويربط الماضي بالحاضر والمستقبل، في ظل ما تصدّره مجتمعات إلى مجتمعات، مما يفرض ثقافة وسلوك التحولات، وكلما تأخر الفقيه غدا قوله تابعاً لا متبوعاً.
بالأمس القريب كان هناك حجر واسع على رمي الجمرات قبل الزوال، ثم اتسع الأمر، وغدا متاحاً في كل وقت، وكانت هناك صرامة في التعزيرات، وربما مبالغة في بعضها، وفي فترة مضت سمعنا بالتعزير من خلال العقوبات البديلة، التي تسهم في إصلاح المُعزّر بالنفع العام، وعدم تكليف المال العام مسؤولية سجين يحتاج إلى أكل وشرب وحراسة.
ولن يعاب اليوم في زمن الذكاء الاصطناعي أن يتقدم فقهاء الشريعة والقانون المجتمعات بخطوات، ويسبقوا بمراحل قرارات حكومات، فمن خلال استقراء كتب الفقه والدساتير لاحظنا ما لدى بعض السلف من استشراف للمستقبل، وفق مقاربات ومقارنات، وتأويل منطقي، واستحضار ما سيحدث وكأنه حدث؛ خصوصاً ونحن نرى ونسمع تنافسية العِلم التجريبي، الذي يقطع مسافاته بسرعات ضوئية نحو حقائق وفرضيات، ويُلغي قناعات ومُسلّمات.
ولعل فقهاء اليوم في عالمنا الإسلامي يدركون أن التقنية بما أنجزته من رقميّة فارطة في الإدهاش، وتجاوز البدهيات والأعراف، بدءاً من علوم الفضاء والطب والجينوم والبيئة والذرة وليس انتهاء بالعمليات المجهرية؛ ما يضع الفقيه إن لم يتقدم في حيرة من أمره؛ فهل الفقه والتشريع سابق أم لاحق؟!!!
وكم من القضايا الحادثة والنوازل في عالمنا اليوم غاب عنها وفيها صوت الفقهاء الثقات، لشعور البعض بالقلق من مآلات الاجتهادات غير المنتظمة في مؤسسات اعتبارية معتمدة، علماً بأن الأصل في الفقيه استقلاليته، التي تبرئ ذمته أمام فقهه؛ ولا تحرجه مع مجتمعه، كما أن الفقه وأصوله ليسا حكراً على دارسي الشريعة، بل يشترك معهم المتخصصون في اللغة، والعلوم الإنسانية.
أخبار ذات صلة
0 تعليق