مانجولا آركيري*
يشهد سوق العمل تحوّلات جذرية مع انضمام أعداد متزايدة من جيل الألفية وجيل «زد» (الجيل الذي وُلد بعد عام 1996) إلى القوى العاملة، حيث يشكّلون حالياً نحو 38% من إجمالي الموظفين حول العالم، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 58% بحلول عام 2030. في ضوء ذلك، بات من الضروري على الشركات في دولة الإمارات ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعديل استراتيجياتها لجذب الكفاءات الشابة والاحتفاظ بها، إذ إن هذا الجيل الجديد يولي أهمية كبرى للمرونة، والتطور المهني السريع، والعمل القائم على القيم، ما يعيد تشكيل المفاهيم التقليدية لبيئة العمل.
وعلى عكس التصورات الشائعة، يتمتع الموظفون الشباب بروح الابتكار وسرعة التكيّف وأخلاقيات عمل عالية، شريطة توفير بيئة داعمة ومشجعة. فالمرونة، على سبيل المثال، تُعد أولوية قصوى لدى الجيل الجديد، إذ يُفضّل معظمهم نماذج العمل الهجينة، ولا يرغب سوى القليل منهم في الالتزام الكامل بالحضور اليومي إلى المكتب.
كما أن تحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية أصبح من الشروط الأساسية عند اختيار الوظيفة، بينما يتطلع العديد من الخريجين الجدد إلى الحصول على ترقية خلال أول 18 شهراً من عملهم، ما يعكس توقهم السريع للتقدم المهني. كذلك، يحرص الشباب على أن تكون وظائفهم ذات مغزى وتنسجم مع قيمهم الشخصية وتُحدث أثراً إيجابياً في المجتمع.
في صميم أي استراتيجية ناجحة لاستقطاب الجيل الجديد، تأتي المرونة في صدارة الأولويات. فبينما يعمل فقط 15% من جيل «زد» و11% من جيل الألفية عن بُعد بشكل كامل، تُظهر الإحصاءات أن نحو 35% من الجيل الأصغر و33% من الجيل الذي يسبقه يفضّلون النموذج الهجين الذي يوازن بين الحضور الفعلي والعمل عن بُعد. لذلك، فإن توفير جداول عمل مرنة وخيارات العمل عن بُعد يعزز رضا الموظفين ويُسهم في بقائهم لفترة أطول داخل المؤسسة.
الشباب اليوم يريدون حرية أكبر في كيفية أداء أعمالهم. فالشركات التي تتبنى سياسات عمل مرنة تتمتع بمعدلات إنتاجية أعلى، وانخفاض في معدل دوران الموظفين. ولا تنحصر مكاسب هذا النموذج على الأفراد فقط، بل تمتد لتشمل الأداء العام للشركة من خلال بناء فرق عمل متحفزة ومندمجة.
الوظائف التي تمنح شعوراً بالهدف، وتفتح آفاق التطور المهني، تُمثّل عنصر جذب أساسياً للموظفين الشباب. فوجود مسارات واضحة للترقي، وبرامج إرشاد مهني، وتوافق بين قيم المؤسسة والمسؤولية الاجتماعية يعزز ولاء الموظف وارتباطه بالمكان.
كما أن الاستثمار في التدريب وبرامج تطوير المهارات بات ضرورياً في بيئة العمل الحديثة. فتمكين الموظفين من تعزيز معرفتهم وخبراتهم ينعكس بشكل مباشر على كفاءة الأداء العام، ويُسهم في بناء فرق ديناميكية وملهمة، ما يُؤسس لنمو مستدام وطويل الأمد.
باعتبارهم من «الرقميين بالفطرة»، يتوقع موظفو الجيل الجديد أن تكون بيئات العمل مجهزة بأحدث التقنيات. فقد أظهرت الدراسات أن 49% من موظفي جيل «زد» يستخدمون الذكاء الاصطناعي بشكل منتظم لأداء مهام تتنوع بين توليد الأفكار وتحليل البيانات وتحسين الكفاءة. لذا، فإن تزويدهم بأدوات تقنية متطورة، إلى جانب مزايا مثل دعم الصحة النفسية وفرص التعلم المستمر، يجعل المؤسسة أكثر جذباً للكفاءات الشابة.
وفي هذا السياق، من المهم خلق بيئة شاملة تشجع على التعاون بين الأجيال المختلفة.
يمكن لبرامج الإرشاد المتبادل وتعزيز ثقافة الحوار المفتوح أن تسهم في تقليص الفجوة بين الأجيال، مع التأكيد على أهمية التغذية الراجعة المنتظمة والتقدير المستمر، وهو ما يُثمّنه الشباب بدرجة كبيرة.
التجارب المشتركة بين الموظفين الشباب والأكثر خبرة تعزز بدورها التعاون، وتُسهم في تنمية الإبداع والابتكار ضمن الفريق الواحد.
ينجذب الموظفون الشباب إلى أماكن العمل التي تتسم بالشفافية، وتُعلي من قيم الشمول والتنوع. فهم يبحثون عن بيئة يشعرون فيها بالاحترام، ويُؤخذ رأيهم على محمل الجد، ويتم تقدير جهودهم بشكل واضح. ومن هنا، تُعد ثقافة العمل التي تحتفي بالاختلاف، وتشجّع على بناء علاقات إنسانية بين الزملاء، وتضمن قيادة شفافة، من الركائز الأساسية في تحسين الرضا الوظيفي وتقليل معدلات التسرب الوظيفي.
كذلك، فإن المؤسسات التي تضع الصحة النفسية في صميم أولوياتها، وتُوفر برامج توازن بين العمل والحياة، غالباً ما تتمتع بمعدلات أعلى من الاندماج الوظيفي والإنتاجية، وتُسجل نسباً أقل في حالات الإرهاق المهني والتوتر.
لم تعد تلبية تطلعات الموظفين الشباب مجرد خيار، بل أصبحت ضرورة استراتيجية لضمان النجاح في المستقبل. فالمرونة، وتطور المسار المهني، والتكنولوجيا الحديثة، وثقافة العمل الإيجابية، جميعها عوامل رئيسية في جذب أفضل المواهب والحفاظ عليها.
ولذلك، يجب أن تبدأ الشركات من اليوم في الاستثمار في جيل الغد، إذ إن بناء بيئة عمل مُحفّزة، مرنة، وذات معنى، هو الطريق الأمثل لضمان النجاح المؤسسي والاستدامة في عالم متغيّر.
* نائبة رئيس قسم التوظيف في «تاسك»
0 تعليق