د. محمد جرادات *
يتصوّر معظم الناس الروبوتات على هيئة آلات بشرية لطيفة تتفاعل مع الجمهور في معارض التكنولوجيا أو روبوت تنظيف يتحرك بانسيابية على أرضية المنزل. إلا أن واقع تكنولوجيا الروبوتات اليوم أكثر ديناميكية بمراحل، فهذه الروبوتات تعيد رسم ملامح قطاعات بأكملها اليوم، بدءاً من مواقع الإنشاءات وغرف العمليات ووصولاً إلى مناطق الكوارث والمصانع وحتى المحيطات. كما تشهد إمكانياتها توسعاً يومياً، والذي يجعلها قادرة على تحويل أحلام الخيال العلمي إلى حلول عملية لبعض التحديات الأكثر إلحاحاً في عصرنا الحالي.
يسجل قطاع تكنولوجيا الروبوتات نمواً متسارعاً على مستوى العالم، فوفقاً للاتحاد الدولي للروبوتات، تجاوز عدد الروبوتات الصناعية العاملة في المصانع حول العالم 4.2 مليون في عام 2024، فيما تُشير تقارير شركة الأبحاث إنترأكتيف أناليتيكس إلى أن معدلات نمو شحنات الروبوتات الصناعية العالمية من المتوقع أن تتجاوز 7% بحلول عام 2026. ومن المتوقع أن تشهد شحنات الروبوتات في منطقة أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا تحديداً معدل نمو سنوي مركب بنسبة 5.6% في الفترة بين 2024 و2028.
أما هنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، يتماشى هذا التوجّه مع رؤية 2030، التي تولي أهمية كبيرة للتحول الرقمي والأتمتة والذكاء الاصطناعي، بصفتها عوامل تحفيز للمرونة الاقتصادية على المدى الطويل، حيث تشكل تكنولوجيا الروبوتات مكوناً محورياً في هذا السياق.
قد لا يكون الرابط بين تكنولوجيا الروبوتات والاستدامة بديهياً للوهلة الأولى، غير أن أهمية هذه التكنولوجيا تظهر بوضوح عند معرفة مدى الحاجة الماسّة للتعامل مع التغير المناخي، وندرة الموارد، وإدارة النفايات.
فلو أخذنا فرز النفايات مثالاً، سنرى أن العالم يُنتج أكثر من ملياري طن من النفايات سنوياً، يفتقر أكثر من ثلثها إلى الإدارة الآمنة بيئياً، بحسب تقرير What a Waste 2.0 الصادر عن البنك الدولي. ويُعد الفرز أحد أكبر العوائق أمام الوصول إلى ممارسات فاعلة في مجال إعادة التدوير، ذلك أنه يتطلب جهداً بشرياً كبيراً، ويفتقر إلى الاتساق، علاوة على تكاليفه المرتفعة. إلا أنه بوجود الأذرع الروبوتية المُزوّدة برؤية حاسوبية وتقنيات ذكاء اصطناعي لفرز المواد بدقة أكبر على مدار الساعة، تتحول العملية إلى مهمة أكثر سهولة ودقة وسرعة بكثير مقارنة بالأساليب التقليدية.
وفي مسابقة الإمارات للروبوتات، شاهدنا الفرق الطلابية تواجه هذا التحدي مباشرةً، من خلال مهمة تطلّبت تصميم ذراع روبوتية قادرة على التعرّف على المواد القابلة لإعادة التدوير وفرزها. وتطلّب تحدٍ آخر تطوير مركبات أرضية ذاتية القيادة ويمكنها التنقّل داخل منطقة محددة وجمع النفايات منها من دون تدخل بشري. وفي التحدي الثالث، عمل الطلبة على تصميم روبوتات قادرة على إزالة النفايات من سطح المياه، في وقت تتصاعد فيه مشكلة تلوث البحار.
ولم تعد التقنيات مثل المركبات الأرضية ذاتية القيادة أو الروبوتات العائمة غير المأهولة مجرّد مفاهيم نظرية. وتُجسّد WakaTech، وهي شركة ناشئة أسسها خريج الجامعة الأمريكية في الشارقة شريف إسماعيل في الإمارات وتتخصص في مجال الروبوتات، هذا التحول من المفهوم إلى التطبيق.
وينبغي لمؤسسات التعليم العالي أن تولي أهمية أكبر للتكامل بين التخصصات. فصناعات الروبوتات تزدهر عند تقاطع المعارف، وتتطلب مساهمات من الهندسة الميكانيكية، والذكاء الاصطناعي، وهندسة الميكاترونكس، والهندسة الكهربائية، وعلوم البيئة، وحتى الأخلاقيات. ومن هذا المنطلق، تعمل الجامعة الأمريكية في الشارقة على تمكين طلبتها ليكونوا مفكرين متعددي الأبعاد، قادرين على إعادة رسم ملامح المستقبل من خلال التعاون.
تعد الاستراتيجية الوطنية للابتكار في دولة الإمارات التقنيات الناشئة، مثل تكنولوجيا الروبوتات والذكاء الاصطناعي والأتمتة، عناصر أساسية لبناء اقتصاد متنوع قائم على المعرفة بحلول 2030. وتتمتع تكنولوجيا الروبوتات بأهمية كبيرة في تعزيز الإنتاجية ضمن قطاعات رئيسية مثل التصنيع والخدمات اللوجستية والطاقة المتجددة.
وبالتالي، لا يتوقف حضور الروبوتات على مجرد الظهور في المعارض التقنية. ففي مجال الرعاية الصحية، تسهم الروبوتات في إجراء الجراحات ذات التدخل المحدود بدقة أعلى ووقت تعافٍ أقصر. وفي الزراعة، تُستخدم الطائرات بدون طيار والروبوتات الأرضية المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحسين إنتاج المحاصيل، مع الحفاظ على المياه وتقليل هدر الطعام. ومؤخراً، وبفضل الروبوتات تحت الماء، تمكّن علماء البحار من رسم خرائط أكثر شمولاً للشعاب المرجانية، مما يدعم جهود التصدي للأضرار الناتجة عن تغير المناخ في المحيطات.
وعلى الصعيد المحلي، أسهمت مشروعات مثل مسبار الأمل ومبادرات مؤسسة دبي للمستقبل في ترسيخ مكانة دولة الإمارات بوصفها جهة رائدة في توظيف الروبوتات لاستكشاف البيئات الأرضية والفضائية على حد سواء. ولم تعد الروبوتات الذاتية مجرد أدوات إضافية في الاقتصادات المتقدمة، بل باتت ركائز لا غنى عنها في مسيرة التطور، وتساعد في توسيع نطاق الحلول في مجالات حيوية مثل استدامة الموارد والصحة العامة.
ومن الطبيعي أن تثير النقاشات المتعلقة بالروبوتات والأتمتة تساؤلات حول مستقبل الوظائف واحتمالات الاستغناء عن بعض الأدوار البشرية. ومن المؤكد أن بعض المهام اليدوية المتكررة ستتحول إلى عمليات مؤتمتة مع مرور الوقت. لكن تجارب التاريخ تشير إلى أن دور التكنولوجيا لا يقتصر على إلغاء الوظائف، بل يعيد تشكيلها ويوفر مسارات مهنية جديدة.
ويُظهر تقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي أن ما يصل إلى 30% من الأنشطة في 60% من المهن قابل للأتمتة من الناحية التقنية، إلا أن الطلب على وظائف جديدة في مجالات الروبوتات والذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات يشهد نمواً متسارعاً. ووفقاً لتقرير مستقبل الوظائف 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، من المتوقع أن يوفر التقدم التكنولوجي 69 مليون وظيفة جديدة على مستوى العالم بحلول عام 2027، على الرغم من تراجع الطلب على بعض الوظائف التقليدية.
ومن الواضح أن تكنولوجيا الروبوتات ستكتسب أهمية متنامية في المستقبل. وتشير تقديرات مؤسسة ألايد ماركت ريسيرش إلى أن حجم السوق العالمي للروبوتات سيتضاعف بحلول عام 2030 ليبلغ نحو 149.86 مليار دولار أمريكي، مع معدل نمو سنوي مركب يبلغ 27.7% بين عامي 2021 و2030.
وسيلعب هذا التقدم في مجال الروبوتات دوراً محورياً في بناء عالم أكثر ذكاءً ونظافة وكفاءة. غير أن تحقيق ذلك يتطلّب وجود مزيد من العقول الطموحة أمثال شريف إسماعيل — والمزيد من المبدعين الفضوليين الذين يجرّبون الطباعة ثلاثية الأبعاد في غرفهم الجامعية، والمزيد من الروّاد الذين يحوّلون مشروعاتهم الجانبية إلى أعمال ريادية توازن بين الجدوى الاقتصادية والهدف المجتمعي.
وفي عالم تتبدل فيه مفاهيم ما هو ممكن كل يوم، تظهر الحاجة إلى عقول محبة للاستطلاع والتعلم ومبدعة قادرة على تحويل الأفكار إلى إنجازات. ومن خلال مبادرات مثل مسابقة الإمارات للروبوتات، نحن نسهم في تمكين جيل جديد من الطلبة ليخوضوا التجربة، ويبتكروا، ويصنعوا الفرق. فحين نعلّم الطلبة التفكير النقدي ونساعدهم على اكتساب الخبرة التقنية، يصبح المستقبل مساحة مفتوحة للإبداع، ومجالاً يتّسع لكل من يرى في التكنولوجيا وسيلة لخدمة الإنسان والكوكب معاً.
* أستاذ الهندسة الميكانيكية، الجامعة الأمريكية في الشارقة
0 تعليق