على امتداد عقود، رسخّت المملكة العربية السعودية مكانتها فاعلًا إقليميًّا أساسيًّا في صياغة ملامح الاستقرار في العالم العربي، من خلال سياسة خارجية متزنة كرّسها ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، تجمع بين الحزم الدبلوماسي والبُعد الإنساني وبين الدفاع عن المصالح العربية والمساهمة في حل الأزمات الكبرى التي تعصف بالمنطقة. ولم يكن هذا الدور مجرد ردّ فعل عابر للأحداث، بل هو تعبير عن رؤية استراتيجية متكاملة تسعى المملكة من خلالها لتعزيز التضامن العربي وصيانة الأمن القومي للمنطقة. في قلب هذه الرؤية، يظل الموقف السعودي من القضية الفلسطينية ثابتًا لا يتزعزع؛ فقد استمرت الرياض، خلال السنوات الأخيرة، في دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، مؤكدة في كل محفل إقليمي ودولي التمسك بمبادرة السلام العربية إطارًا مرجعيًّا عادلًا وشاملًا. وقد ترجمت المملكة هذا الموقف إلى دعم سياسي واقتصادي مستمر، من خلال المساهمة السخية في دعم ميزانيات السلطة الفلسطينية، ودعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، فضلًا عن الدفاع عن قضية القدس في كافة المحافل الدولية، ورفض كل محاولات المساس بوضعها القانوني والتاريخي والإدانة الشديدة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة واستهدافه للمدنيين. أما العراق، فقد شهدت العلاقات السعودية- العراقية تطورًا كبيرًا، حيث أعادت المملكة فتح السفارة في بغداد، وتم تدشين مشاريع تنموية واقتصادية ضخمة، كما فُتحت المعابر الحدودية أمام حركة التجارة، وشاركت المملكة في دعم إعادة إعمار المناطق التي تضررت من الحرب ضد الإرهاب. لقد كانت السعودية، بفضل سياستها المتأنية، قادرة على المساهمة في استعادة العراق مكانته دولةً عربيةً فاعلةً ومتماسكةً. وفي السودان، كانت الرياض حاضرة بقوة في جهود وقف نزيف الدم نتيجة الحرب، حيث سعت المملكة لجمع الفرقاء السودانيين على طاولة الحوار، ووفرت مناخًا إقليميًّا رافضًا للحرب هناك. وقدمت السعودية وتقدم دعمًا ماليًّا سخيًّا للاقتصاد السوداني، كما أشرفت على مشاريع تنموية وإنسانية؛ بهدف الحدِّ من تداعيات الأزمات المتلاحقة التي أثقلت كاهل الشعب السوداني. وبالنسبة للبنان، فقد برزت المملكة وسيطًا نزيهًا في حل الأزمة السياسية التي طال أمدها، حيث دعمت المشاورات التي أدت إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة وطنية توافقية، مؤكدة أهمية احترام سيادة لبنان ووحدته الوطنية. أما الملف السوري، فقد اتجهت الرياض منذ سقوط نظام بشار الأسد إلى تعزيز حضورها فاعلًا رئيسًا في الجهود الدولية الرامية إلى إنهاء المأساة السورية. ومن هذا المنطلق، اتخذت المملكة سلسلة من الخطوات المهمة، كان أبرزها الضغط السياسي والدبلوماسي باتجاه تخفيف العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، نظرًا لما تسببه هذه العقوبات من مآسٍ إنسانية مباشرة على الشعب السوري. ولم تكتفِ المملكة بالدعوات النظرية، بل أرسلت مساعدات إنسانية ضخمة عبر مركز الملك سلمان للإغاثة. وعلى المستوى السياسي، أدّت السعودية دورًا حيويًّا في نقل وجهة النظر السورية إلى الإدارة الأمريكية، سواء من خلال القنوات الدبلوماسية المباشرة أو عبر اللقاءات الثنائية؛ التي جمعت وزير الخارجية السعودي مع نظيره الأمريكي في واشنطن. وتستعد المملكة لتعزيز هذا الدور خلال الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى الرياض في الشهر القادم، التي من المتوقع أن تتناول بشكل رئيسي آفاق المرحلة الانتقالية في سوريا وإعادة تطبيع العلاقات الإقليمية معها.
إن مجمل هذه التحركات تؤكد أن السياسة السعودية الإقليمية ليست مجرد ردّ فعل على الأزمات، بل هي ترجمة لرؤية عميقة تأخذ في اعتبارها معاناة الشعوب، وتعمل على بناء توافقات واقعية تحفظ وحدة الدول، وتحول دون التدخلات الخارجية التي تفاقم من معاناة المنطقة. لقد أثبتت المملكة، خلال السنوات الأخيرة، أنها ليست فقط قوة اقتصادية ودينية، بل أيضًا قوة سلام ومصالحة، تسعى لجمع الكلمة، وتمد يدها إلى الجميع من أجل غدٍ عربي أفضل.
أخبار ذات صلة
0 تعليق