ليست شخصيات العلوي في «تدريبات شاقة على الاستغناء» كلها طيبة، منها الشرير ومنها المحتال ومنها المدّعي. ولكنها شخصيات قد تصادف أيّاً منا: في الحارة، في المدينة، في مكان العمل.. هي حياة كاملة إذن اختزلها العلوي في 14 قصة، تتفاوت في حجمها. بأسلوب سردي ممتع ولغة الحكّاء اللمّاح القابض على التفاصيل، يجوب بنا العلوي من الأحياء البسيطة المحافظة، الى المدرسة إلى المستشفى وصولاً إلى المقبرة. هناك وللمفارقة نقرأ عن العشق الأزلي، وعن معنى الوفاء.
منح العلوي لمجموعته القصصية الأحدث عنوان القصة السادسة. وفيها يسلّم مهمة الحكي لمراهق يروي قصة تعلّقه (وأترابه الآخرين) بامرأة أرملة «ليست من قريتنا». هي غريبة عن القرية وغريبة بأسلوب حياتها وطريقة كلامها وملبسها. ومن هنا كانت محط اهتمام المراهقين المتلصصين على حياتها. الراوي، كمثل غالبية المراهقين في مجتمعنا العربي، يجنح في خياله ولكنه «قابع داخل سجن فرديتي». لقد أتقن الكاتب ببراعة رسم شخصية المراهقين، بجموحهم وفضولهم وتخبّطاتهم، بطلنا يقول «ما زلت أمارس وبإصرار غريب تدريباتي الشاقة على الاستغناء، الاستغناء عن كل شيء، ومن أجل لا شيء.. أعيش على هامش الحياة.. أشيّد بتؤدة جدار أحلامي المحفّزة».
في «ديستوبيا القرى المعزولة»، يكشف الكاتب، هكذا، من دون مواربة، عن مخاوفه. فمن المعروف عن العلوي، تعلّقه بالقرية، في تناقض مع المسار العام المتمثل في ظاهرة النزوح الى المدينة. وفي اختياره لكلمة «ديستوبيا» يجنح العلوي الى أسوأ كوابيسه، حيث تُنزَع عن القرية هويتها البسيطة المتوكّلة الفطرية. في هذه القصة، وهي من جزءين، لا يحيل الكاتب هذه القرى المعزولة الى خراب ولا إلى عالم يتجرّد فيه الإنسان من إنسانيته، وإنما فقط يجعل الطفرة المالية تجتاحها. وهذا كفيل بالنسبة للكاتب، على ما يبدو، أن ينزع عن القرية هويتها، وتتحول من قرية الولي الصالح.. الى قرية الولي.
في قصة «كلمات محذوفة من حديث قصير»، لا شيء كثيراً يحدث. فقط شاب يكتشف في يوم عرسه أن حميه استبدل الفتاة الصغرى التي خطبها بالأخت الكبرى. متوقع طبعاً أن تكون أقل جمالاً. تلك هي القصة باختصار! ولكن العلوي أبدع في توصيف التحوّلات التي طرأت على مشاعر الشاب من غضب جراء وقوعه في الفخ، ثم الخذلان والحزن، ثم تفطّنه إلى «الضعف المستكين خلف توتّرها»؛ أي العروس، ليكتشف بسهولة أن «هذه الفتاة الجالسة أمامي امرأة مُهمَلة تعيش على هامش الحياة مثل روح مهشّمة ملقاة في مستنقع الحياة الموحلة، مجرّد ضحية مثلي».
هي هذه الشخصيات المهملة، ما يمنحها العلوي شأناً، فيفرد مثلاً قصة للأستاذ مجيد، المدرّس البديل الذي يدخل حصة ويعزف الكمان لطلابه قبل أن يطرد من المدرسة. في هذه القصة التي تحمل عنوان «الواقفون على عتبات البهجة» يحكي لنا العلوي الأثر الذي تخلّفه حصة يتيمة وأستاذ مرهف في الطلاب لسنوات تلت.
أما قصة «سردية قصيرة لوداع مبكر»، فيكرّسها العلوي لعمّ الراوي، الغارق في الكتب، والزاهد في الدنيا والمال والجاه، وكان اسمه زاهداً. بينما في «المؤتمر الأدبي»، ينتصر العلوي لـ«كاتب مغمور»، في معركته ضد أفّاق مدّعٍ للثقافة. في حين تحكي قصة «يوم عصيب في حياة الآنسة ريم» غربة هذه الفتاة عن منزلها، فقط بسبب «حنينها» لكتبها. وهكذا يغدو البيت الجديد بارداً خاوياً.. وقبراً.
تُظهر مجموعة «تدريبات شاقة على الاستغناء» تنوعاً في الأساليب السردية والمواضيع، ما يعكس قدرة العلوي على استكشاف عوالم مختلفة وتقديمها بأسلوب جذاب. ولهذا تُعد «تدريبات شاقة على الاستغناء» إضافة قيمة إلى الأدب السعودي المعاصر، إذ تقدم نظرة عميقة ومتنوعة إلى المجتمع السعودي من خلال قصص قصيرة تحمل في طياتها رسائل ومعاني متعددة، تعكس تباين التجارب الإنسانية وتسلط الضوء على قضايا اجتماعية وثقافية مهمة، بينها أيضاً:
أهمّيّة الكتب والهروب إلى القراءة. والليل وما يكشفه السهر من قصص خفيّة. ومهووسٌ يجمع تقارير سرّية عن فتيات الحارة. إضافة إلى مقالة بليغة وبديعة تحاكي لغة القرن التاسع الهجري على طريقة المؤرخ المقريزي.
كلّ هذا وأكثر بين دفّتَي كتابٍ صغير لكن غنيٌّ بما فيه.
وجاء في نبذة الناشر:
– هل سمعتَ من قبل بحصان طروادة؟ فكّرتُ قليلاً وقلتُ:
– لا، وش حصان طروادة ذا؟
بدا متأفِّفاً ونافدَ الصبر من سؤالي. زفرَ الهواءَ من فِيْه بقوّةٍ ثمّ قال بهدوءٍ:
– في الواقع هناك الكثيرُ من أحصنةِ طروادة. هناك حصانُ طروادة خشبيٌّ هائلُ الحجم استخدمه الإغريقُ للاستيلاء على مدينة طروادة، بعدما أخفوا بداخله مجموعةً من الجنود الأشدّاء. أدخلَ سكّان المدينة، من باب الفضول، الحصانَ الخشبيّ داخل أسوار مدينتهم الحصينة، فخرج الجنود المختَبئون منه، واستولوا عليها بهذه الحيلة. وهناك حصان طروادة بشريّ من لحمٍ ودمٍ، يمكنكَ برمجته عقليّاً عن طريق الترهيب أو الترغيب ليكون رهنَ إشارتك. وهناك حصان طروادة إلكترونيّ يمكنكَ زرْعه في الهواتف وأجهزة الكمبيوتر ليمنحكَ كلّ الأسرار.
أخبار ذات صلة
0 تعليق