كتب محمد بلاص:
كل ما تخشاه المسنة صالحة محمد (85 عاما) من مخيم جنين، أن يتوفاها الأجل وهي بعيدة عن المخيم الذي نزحت منه في الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي على المخيم في الواحد والعشرين من كانون الثاني الماضي، شأنها في ذلك شأن جميع أهالي المخيم ممن أجبرهم جيش الاحتلال على النزوح من داخل المخيم الذي أصبح فارغا من أهله بالكامل.
ولم يكن هناك من خيار آخر أمام تلك المسنة سوى النزوح من بيتها إلى خارج المخيم الذي دخل العدوان الإسرائيلي عليه يومه الخامس عشر بعد المائة، وتحول إلى منطقة أشباح، بعد أن دمرت آلة الحرب الإسرائيلية جميع مقومات الحياة بداخله، وطردت أهله ممن يئنون تحت وطأة النزوح وفقد المساكن.
تقول محمد لـ "الأيام"، إنها عايشت نكبة العام 48 وبعدها نكسة حزيران عام 67 والاجتياح الإسرائيلي المدمر للمخيم في نيسان عام 2002، لكن هذه المرة مختلفة تماما، فهي أصعب وأشد من سابقاتها، مضيفة: "سمونا لاجئين وبعدين مهجرين وبعدين مشردين واليوم نازحين، وبكرة الله أعلم شو يسمونا".
وتعيش تلك اللاجئة المسنة، لدى أحد أبنائها، ولكن لسانها يلهج على مدار الساعة بالحنين إلى المخيم الذي عاشت فيه 58 عاما بحلوها ومرها، وكل ما تخشاه أن يسترد الله أمانته وهي بعيدة عن بيتها الذي تحتفظ في كل زاوية منه بحكاية لن تنساها حتى يتوفاها الأجل.
ومضت والدموع تغرق عينيها: "قبل كنت أتمنى أرجع على زرعين، واليوم بتمنى أرجع على المخيم، بس مش عارفة إذا برجع وإلا لع".
ورغم حرص نجلها على توفير جميع متطلباتها، إلا أن ذلك لا ينسي المسنة محمد بيتها الذي تجهل مصيره، وحارتها وجاراتها وأهالي مخيمها الذي تعشق كل زقاق فيه.
وولدت المسنة محمد في قرية زرعين المهجرة داخل الخط الأخضر، واضطرت عائلتها إلى الهجرة إبان نكبة عام 48، واستقرت إبان نكسة حزيران عام 67 في مخيم جنين.
وكما هو الحال بالنسبة للمسنة محمد، يتمسك اللاجئ جمال أبو سرية، من مخيم جنين بحلم العودة إلى المخيم كمحطة عودة نحو قريته زرعين المهجرة.
ومع بدء العدوان الإسرائيلي على المخيم، انتقل أبو سرية للسكن في حي "الهدف" المجاور للمخيم من الجهة الغربية منه، حيث استأجر شقة أرضية برفقة عائلته الصغيرة، ويراقب كما المئات من أهالي المخيم ممن نزحوا إلى أحياء قريبة من المخيم، من بعيد عمليات هدم المنازل وشق الطرق وتدمير جميع مقومات الحياة الآدمية داخل المخيم، دون أن تتوفر حتى الآن صورة واضحة حول طبيعة وحجم الدمار داخل المخيم.
ومن ساحة صغيرة أمام المنزل المستأجر، راح أبو سرية، يراقب أطراف المخيم الغربية، وبالكاد يستطيع مشاهدة منزل أحد أبنائه المطل على المخيم، وتتحصن قوات الاحتلال بداخه منذ فترة طويلة.
أما النازح جمعة زوايدة (66 عاما)، فيقول، إنه أصر على البقاء داخل منزله في المخيم لعدة أيام، رغم مغادرة جميع أفراد عائلته.
وقال زوايدة "أخبرت أهلي أنني سأبقى في بيتنا، حتى إذا اقتحم الجيش البيت وحاول يهدمه أكون موجود على أمل منعهم من هدمه".
ولكن مرت ثلاثة أيام على وجود زوايدة وحيدا داخل منزله، وكانت أيام مليئة من الخوف مرت كأنها الدهر بأكمله، ولم تتوقف خلالها أصوات الانفجارات وإطلاق النار، وأزيز الطائرات المسيرة التي كانت تحلق على ارتفاعات منخفضة وتدخل المنازل للتأكد من خلوها من ساكنيها.
وبعد ثلاثة أيام، قال زوايدة: "انقطعت المياه والكهرباء، وأخذت بطارية الهاتف المحمول تفرغ من الشحن، وظن أنه لا يمكنه البقاء أكثر، فاضطر إلى المغادرة والخروج من المنزل الذي كان محاصرا بالعشرات من جنود الاحتلال".
وشعر زوايدة، للحظات أنه أصبح في مرمى نيران جنود الاحتلال ممن قال، إنهم كانوا يطلقون النار على كل جسم متحرك وبدوا في حالة هستيرية في ذلك اليوم، إلا أنه نجا من موت كان محققا، وانتقل إلى موقع غير بعيد عن المخيم للعيش فيه.
ويجهل ذلك النازح، إن كان بيته دمر أم لا، قائلا: "في ناس حكوا لي إنه دارنا انهدت، وناس قالوا إنها تضررت، وما بعرف شيء عنها".
وأقام زوايدة الذي لديه تسعة أبناء، وكان يعمل في مجال البناء، لمدة ثلاثة أشهر في مدرسة تحولت إلى ملجأ للنازحين من أهالي المخيم، قبل أن ينتقل إلى مكان خاص بإقامة الطلبة الجامعيين قرب الجامعة العربية الأميركية.
أما محمد الشلبي (53 عاما) والذي يعمل في البلدية، فقال، إنه نزح من مخيم جنين إلى القرى المجاورة قبل أن ينتقل إلى الإقامة في أحد سكنات الجامعة العربية الأميركية.
وأضاف الشلبي، إنه انتقل للعيش في السكن الطلابي الجامعي برفقة والده المسن والذي تجاوز من العمر 80 عاما ويعاني من عدة أمراض.
ومضى"حتى لو وضعونا في فلل فلن نرتاح حتى نعود إلى المخيم ونعيش حتى في خيمة على كومة تراب".
وتقول النازحة أم ماجد: "قالوا لنا إنه لم يعد لدينا منزل، وأننا لن نعود إلى المخيم، وفي ناس كثار حاولوا يرجعوا على المخيم، لكن الجنود منعوهم وضربوهم واحتجزوهم".
وتتقاسم أم ماجد غرفة مخصصة لشخصين مع ثلاثة آخرين في أحد سكنات الجامعة العربية الأميركية، واصفة ظروف العيش بأنها صعبة بعيدا عن المخيم.
0 تعليق