لم يقتصر العلاج في المستشفى الثاني على مواطني البحرين والمقيمين على أرضها، وإنما قدم المستشفى خدماته أيضاً لمواطني الدول الخليجية الشقيقة المجاورة، حيث كان يوفد أطباءه إلى دول الجوار لمعالجة الحالات الحرجة بناء على طلب شيوخها وأمرائها ووجهائها، على نحو ما حدث مع الطبيب الأمريكي بول هاريسون (ت: 1962) الذي كان أول طبيب ومبشر أمريكي ينجح في دخول شبه الجزيرة العربية في عام 1917، حيث استدعاه إلى نجد الملك عبدالعزيز آل سعود لعلاج عائلته بعد تفشي الأنفلونزا الإسبانية. وبالفعل وصل هاريسون إلى الرياض عن طريق القطيف منتصف عام 1917، ومكث فيها قرابة عشرين يوماً عالج خلالها الكثيرين حتى نفدت أدويته.
وإذا كانت البحرين أول قطر خليجي تقام فيه مستشفيات غير حكومية، فإنها، من جهة أخرى، عـُرفت أيضاً بأنها أول بلد خليجي يؤسس فيه مستشفى حكومي، وذلك حينما تمّ افتتاح «مستشفى النعيم» بالمنامة سنة 1942 بتكلفة 70 ألف روبية، وأول بلد خليجي يفتتح فيه أول معهد حكومي للتمريض وذلك في عام 1959. وحول هذا المستشفى تحدث الحاج حبيب غيث، الذي يعد أول مساعد ممرض بحريني يتعلم التمريض بالممارسة، فقال، إن مستشفى النعيم بدأ بطبيب واحد يدعى «ديفيد بورت جونز»، وأن الأخير ترك عمله بعد ستة أشهر للالتحاق بالجيش البريطاني، فخلفه الطبيب «ريتشارد سنو» (تولى رئاسة الدائرة الطبية لحكومة البحرين لاحقاً وحتى تاريخ تقاعده عام 1970)، وكان يقيم مع زوجته في الطابق الثاني من المستشفى، واصفاً الأخير بأنه عرف عنه الهدوء والحلم والإخلاص والتفاني في عمله ليلاً ونهاراً رغم قلة الأجهزة وضعف الإمكانات، بدليل أنه فتح في الأربعينات عيادة يومية خارج دوامه الرسمي لمعالجة الطلاب من مرض التراخوما الذي كان يفتك بعيونهم ويعيق دراستهم.
تقف الأدبيات الطبية البحرينية طويلاً عند الطبيب الهندي «إيه. إس. بندركار» (A.S.Banderkar)، على اعتبار أنه أول طبيب أجنبي يلتحق بالخدمات الصحية الحكومية في البحرين، وكان ذلك في السنة المعروفة بـ«سنة الطبعة» أي سنة 1925. ففي ذلك العام رغب حاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة طيب الله ثراه (1848 ــ 1932) في تخصيص طبيب لمعالجة البحارة والغاصة أثناء تواجدهم في مغاصاتهم في البحر. ولتحقيق هذه الرغبة قامت دار الاعتماد البريطاني (بيت الباليوز) بنشر إعلان في إحدى صحف بومباي تطلب فيه توظيف طبيب هندي للعمل في البحرين.
قرأ الدكتور بندركار وزميل له الإعلان المذكور فقررا التقدم معاً للوظيفة، لكن زميله عدل عن قراره لاحقاً؛ لأنه حصل على وظيفة مناسبة له في أحد مستشفيات بومباي. وفي هذا السياق، كتب بندركار في مذكراته: وافقت على العرض ثم سافرت على الفور إلى بومبي ومن هناك أرسلت برقية للطبيب الجراح الذي كان يعمل في المعتمدية البريطانية بالبحرين تفيد اعتذار صديقي ورغبتي في أن أحل محله. ومن بومبي سافرت على ظهر سفينة بريطانية هندية (يقصد سفينة تابعة لشركة البواخر «B- 1» التي كان وكيلها في البحرين شركة غري ماكينزي، ومقرها آنذاك في موقع مجمع يتيم الحالي وسط سوق المنامة القديم). وبعد 15 يوماً من الإبحار الشاق وصل بندركار إلى البحرين في النصف الثاني من مايو 1925، حيث كانت في انتظاره مجموعة من سفن «الداو» للترحيب به، وكان على متن إحداها الطبيب الجراح بدار المعتمدية الذي سيصبح رئيسه المباشر، فركب معه في سفينته التي نقلته إلى الشاطئ، ليباشر عمله بعد أيام في تقديم العلاج والتطعيمات اللازمة للبحارة والغاصة في أماكن تواجدهم في عرض البحر.
ولهذا الغرض تم تخصيص «بوم» (سفينة شراعية أطلق عليها العوام «بوم الدختر»، والدختر كلمة شعبية محرفة من أصلها الإنجليزي doctor) باللونين الأبيض والأحمر وبحمولة تتراوح بين 50 و90 طناً ليتنقل فيه ما بين الساحل وعرض البحر، وما بين سفينة وأخرى في مغاصات اللؤلؤ (الهيرات). والسبب في طلاء «بوم» بندركار بهذه الألوان هو تمييزها عن بقية المراكب وتسهيل التعرف عليها. وكان بندركار يقوم برحلات إلى عرض البحرين تستغرق الواحدة منها ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع يعود بعدها إلى البر للتزود بالأدوية والمضادات والغذاء والماء والوقود. وكان يصطحب معه في رحلاته هذه، شرطيين ومـُضمـّد وكاتب يسجل أسماء المرضى وأنواع أمراضهم وعلاجاتهم، علماً أن العلاج كان يقدم لكافة الغاصة بمن فيهم غير البحرينيين. لاحقاً استبدلت سفينته الشراعية بأخرى بخارية، وكان بعد عودته إلى البر يقدم خدماته الطبية لمواطني المحرق من خلال عيادة لم تكن مساحتها تزيد على 21X20 قدماً، بدعم من بلدية المحرق التي وفرت له مساعدين وممرضات وقابلة قانونية. ومن المؤكد، أنّ هذا كان قبل تحويل مسكن زوجة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة رحمهما الله في المحرق إلى مستشفى للتوليد في عام 1947، وهو المستشفى الذي ظل يعمل حتى عام 1961، حينما تم هدمه ليقام على أرضه مركز الشيخ سلمان الصحي في عام 1976.
وصف بندركار تلك العيادة، التي كان يعالج فيها الأهالي بعد كل موسم غوص، بأنها عبارة عن دكان ضيق له باب كبير في المقدمة ونافذة واحدة صغيرة وتنقصه التهوية والإضاءة، ويصعب الوصول إليه (بسبب موقعه وسط الأزقة الضيقة الملتوية). وأشار بندركار إلى أن ذلك الدكان كان، قبل مجيئه إلى البحرين، مكاناً يقدم فيه طبيب هندي من طائفة البهرة العلاج للأهالي وفقاً لأسلوب الطب اليوناني الشعبي القديم.
والمعروف أنّ بندركار بعد إحالته إلى التقاعد في نوفمبر 1955، ظل في البحرين يمارس مهنة الطب من خلال عيادة خاصة افتتحها بنفسه في فريج «الصنقل»، حيث كان يعالج الناس بأسعار رمزية، الأمر الذي جعلهم يحبونه ويطلقون عليه اسماً شعبياً سهلاً هو «الدخترعيسوه» (استناداً إلى الحرفين الأولين من اسمه وهما A. S)، ثم يبكون عليه بحرارة حينما علموا بخبر وفاته في بلاده سنة 1964. وهو من جانبه بادلهم الحب بالحب والود بالود وشاركهم في أفراحهم وأحزانهم، وحزن كثيراً لفراقهم يوم عودته إلى بلاده، طبقاً لما كتبه في مذكراته.
ويروي المؤرخ البحريني المعروف الأستاذ خليل محمد المريخي، في مقال له في جريدة أخبار الخليج البحرينية (22/4/2012)، بعض الطرائف التي صاحبت عمل بندركار في المحرق، ومنها أنّ أحد مرضاه المصابين بالسعال كان في كل مرة يُصرف له الدواء في زجاجة (غرشة) يعمد إلى رميها بدلاً من إعادتها لملئها مجدداً، فغضب منه بندركار وأمره، بلكنته العربية المكسرة، أن يأتيه في المرة القادمة بـ «غرشة»، لكن المفاجأة كانت حينما عاد المريض لاحقاً ومعه «كرشة» بدلاً من «غرشة» وهو يقول: «دختر يابيت لك (أحضرت لك) الكرشة التي طلبتها مني». نظر الدكتور إلى الكرشة، وقال للمريض ما هذا اللي جبته معك؟ فرد المريض الكرشة اللي طلبتها. كان فني الصيدلية أو التمريض البحريني محمد واقفاً بجانب الدكتور بندركار في تلك الساعة، فصاح في المريض قائلاً: «الدختر يقصد غرشة دواء وليس كرشة يا غبي». ثم أخذ محمد «الكرشة» ورماها في سلة النفايات.
الأمراض الشائعة في المغاصات
ويصف بندركار في مذكراته رحلته البحرية من بومباي إلى المنامة عام 1925 بالرحلة المرهقة والمتعبة، مضيفاً، أن ما زادها تعباً هو أنه لم تكن في البحرين في تلك الأيام أي فنادق كي يأخذ فيها قسطاً من الراحة، فاضطر للقبول بمأوى متواضع وفرته له الحكومة للنوم وترتيب أموره. أما عن أكثر الأمراض التي كان يعاني منها البحارة والغاصة آنذاك، فيقول بندركار، إن معظم الأمراض الشائعة في المغاصات كانت السعال والزكام والنزلات المعوية التي كانت تصيبهم نتيجة تسخين الطعام المكون من السمك والتمر أكثر من اللازم، كما كان الغواصون يشكون من آلام الأذن والنزيف التي كانت تصيبهم نتيجةً لضغط الماء في الأعماق، مشيراً إلى أنه لاحظ من خلال عمله أن أكثر من كان يعالجهم كانوا يترددون في الإفصاح عن مرضهم بسبب الخجل. وأضاف بندركار قائلا: «قمت بخلع مئات الأسنان التالفة، ووجدت الجميع متعاوناً معي إلى أقصى درجة، وكانوا يشعرون بالعرفان لهذه الرعاية الطبية، التي تم توفيرها بناء على مبادرة الحاكم صاحب السمو الشيخ عيسى بن علي آل خليفة».
ضمّن مذكراته أيضاً وصفاً للأحزان التي عمت البحرين بسبب الإعصار الذي ضربها في عام 1925 وتسبب في غرق ما بين 600 و700 سفينة كانت وقتها في مغاصات اللؤلؤ وعلى ظهرها نحو 25 ألف شخص ما بين نوخذة وغيص وسيب وخادم. دعونا نقرأ ما كتبه عن هذا الحدث المروع: «في ساعة متأخرة من الليل تعرضت البحرين والمنطقة المحيطة بها لعاصفة مرعبة فاجأت مئات السفن التي كانت راسية في المغاصات، والتي كان آلاف العاملين عليها يرقدون في سبات عميق بعد يوم عمل شاق دون أن يشعروا ببوادر الكارثة في هذه الليلة المشؤومة. وفي الصباح التالي أسرع الآلاف من الرجال والنساء إلى الشاطئ وقد ارتفع صراخهم وبكاؤهم وهم يحدقون في البحر في ذهول دون أن يعرفوا شيئاً عن مصير أقربائهم، وقد تلقيت تعليمات بالتوجه إلى البحر في لنش المعتمدية لتقديم المساعدة الطبية وإنقاذ من بقي على قيد الحياة، وقد وجدنا مئات السفن مقلوبة وطافية فوق سطح الماء، ولكننا لم نجد أثراً للضحايا فيما عدا شخصين تعلقا بحطام إحدى السفن، وقد توفي أحدهما من التعب قبل أن نصل للميناء. وقد بلغ عدد الغرقى حسب التقديرات المعتدلة خمسة آلاف شخص. وظل مكتب البرقيات مشغولاً لمدة أسبوع دون توقف في إرسال واستلام الرسائل من وإلى أقارب الأجانب العاملين في البحرين للاطمئنان عليهم».
ذكريات بندركار في البحرين
كما ضمّن مذكراته حديثاً عن الخدمات الصحية في البحرين وقت وصوله إليها قائلاً: «لاحظت في بداية وصولي بعدة أيام أنه لا توجد في البحرين خدمات صحية حكومية سوى مستشفى فكتوريا التذكاري، الذي كانت خدماته مقتصرة في البداية على علاج المرضى من موظفي (بيت الباليوز) أي دار الاعتماد البريطاني؛ لأنه في الأصل كان تابعاً لهذه الوكالة البريطانية، وأيضاً معالجة بحارة البواخر التي كانت ترسو عند ميناء سترة التابع لشركة نفط البحرين (بابكو)، إلا أنه فتح أبوابه فيما بعد وبدأ في علاج المرضى البحرينيين، خصوصاً عندما اجتاحت البحرين أمراض وبائية مختلفة من تلك التي كانت تزور البلاد من وقت لآخر (مثل الجدري والملاريا والتراخوما والأنفلونزا والتيفوئيد والكوليرا)». كما كان لبندركار دور كبير وتعاون وثيق مع مستشفى الإرسالية الأمريكية في مكافحة مثل تلك الأمراض. حيث كان لمستشفى الإرسالية جهود كبيرة وواسعة في علاج مواطني البحرين، بل حتى مواطني البلدان المجاورة الذين كانوا يتعالجون فيه، ولاسيما بعد ان أصبحت كافة التخصصات العلاجية من أجنحة وأقسام للمختبرات والأشعة والولادة متوفرة فيه بقيادة الدكتور بول هريسون الذي أمضى نصف قرن من عمره في هذا المستشفى.
وفي مكان آخر من مذكراته تطرق إلى علاقته بحاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، فوصف سموه بالجود والكرم ورجاحة العقل. ثم أضاف، أنه كان كثير التردد على مجلسه بالرغم من وعورة الطرق المؤدية إلى قصره آنذاك، كما أن خليفته الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة (1872 ــ 1942)، كان يصطحبه معه إلى رحلات القنص في الأربعينات، وصادف أن التقى في إحدى تلك الرحلات بالملك عبدالعزيز آل سعود وحاشيته ثم بحاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح ومرافقيه فقام بعلاج العديد من أفراد الحاشيتين.
وتشاء الأقدار أن يتوفى الشيخ حمد بعد مضي بضعة أشهر من رجوعه من رحلة القنص الطويلة آنفة الذكر، وفي آخر مذكراته يصف عهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة الذي بدأ سنة 1942، واستمر حتى وفاته سنة 1961 بعهد المنجزات الكثيرة والمتعددة، ثم لا ينسى الدكتور بندركار، وهو يروي ذكرياته في البحرين، أن يشكر أهالي البحرين وحكامها وشيوخها وتجارها وشعبها على ما أحاطوا به من رعاية واهتمام وتقدير طيلة إقامته في البحرين.
أخبار ذات صلة
0 تعليق