على سبيل المثال: لا يُحسب هنا من غاب عن الانتخابات، ولا لماذا غاب عنها.. كما لا يُحسب هنا من كانت أوراقهم باطلة، بموجب قانون الانتخابات، ولا من بلغوا السن القانونية، وفاتتهم المدة المحددة للتصويت، لأي سبب ما... كما لا يُحسب من فاتهم التصويت لأسباب خارجة عن إرادتهم، كعدم ملاءمة ظروف الطقس يوم الانتخاب.. أو البعد عن مراكز الاقتراع، يوم التصويت.. ومن لم تسمح له ظروف عمله المهنية...إلخ. نحن نتكلم هنا عن ظروف مادية تشكك في نتيجة أي انتخابات عامة أو جهوية، ولم نتطرق إلى أي ظروف مفتعلة، كعمليات التزوير، بغرض الوصول إلى نتيجة محددة تخرج بها عملية التصويت.
في النهاية، هنا: نجد أن الديمقراطية تفشل في تحقيق التأكد من أن هذا المتغير الكمي لقياس شرعية الديمقراطية، وبالتبعية، شرعية النخبة الحاكمة، يعكس بدقة حقيقة الإرادة العامة. جدلٌ كثيراً ما يُتحجج به من قبل المناوئين للديمقراطية، كون آليتها تعكس الإرادة العامة للمجتمع السياسي.
لكن، بالرغم من هذا الخلل المنهجي في فكرة وآلية الديمقراطية، كأفضل وسيلة للتعرّف أين تتجه الإرادة العامة، من خلال حساب أصوات الناخبين كمياً، التي عادةً ما تظهر عند الاعتراض على نتيجة الانتخابات، تبقى لدينا جوانب سياسية وقِيَمِيّة، يجادل بها نقاد النظرية الديمقراطية. أنصار الديمقراطية كثيراً ما يجادلون أنها تعكس الإرادة العامة، بدليل أنه يتولد عن الأخذ بها استقرار سياسي مستدام، بقدرتها معرفة توجه الإرادة العامة، لتحديد شرعية النخب الحاكمة.. وأن صوتاً واحداً، يكفي فقط، لمعرفة أين تتجه الإرادة العامة.
صحيح أن صوتاً واحداً يحدد توجه الإرادة العامة، كمياً، لكن عامل الاستقرار هنا راجع للخريطة التعددية للمجتمع السياسي، في المقام الأول، لا بسبب دقة المعيار الكمي لمعرفة توجه الإرادة العامة. كما أن الاستقرار السياسي في مجتمعات الشمال العريقة ديمقراطياً يرجع لتركيبة التعددية السياسية بها، حيث تسود تاريخياً كتل سكانية بعينها، مع تهميش بقية مكونات المجتمع السياسي. في حقيقة الأمر المنافسة بين الأحزاب السياسية، في الدول الديمقراطية، بين الليبراليين والديمقراطيين والمحافظين والاشتراكيين، إنما تحصر العملية الديمقراطية بين هذه القوى في مجتمع هو في الأساس مجتمع أغلبية، ولا يمثل المجتمع في كلياته. بينما بقية المجتمع السياسي (الأقلية الحقيقية)، ليس لها في العملية الديمقراطية لا ناقة ولا جمل.
عندما تختل توازنات المجتمع السياسي، الذي تُحسب فيه الإرادة العامة كمياً، بأن تفقد الأغلبية الواقعية تمثيلها الغالب في المجتمع السياسي عددياً، ومع الوقت تتسع مساحة الأقلية الحقيقية عددياً، ليقل الفارق بينهما، هنا يحصل الانشقاق الحقيقي في المجتمع، ولم تعد الديمقراطية تمثّل ضماناً سياسياً وأمنياً حقيقياً لسيادة الأغلبية الحقيقية في المجتمع، ليبدأ الصراع السياسي يسفر عن وجهه العنيف.
هذا ما يحصل هذه الأيام في الولايات المتحدة من صراع عنيف بين فئات المجتمع المختلفة ضمن تعددية سياسية، في حقيقة الأمر لا تعكس منافسة حقيقية واضحة تحكم المنافسة السياسية الموضوعية بين أطياف الخريطة السياسية، داخل المجتمع الأمريكي.
لأكثر من ٢٥ قرناً، كان المجتمع الأمريكي خلالها ينعم باستقرار، بسيادة أغلبية قائمة من البيض الأنجلوساكسون البروتستانت، الذين يتكلمون اللغة الإنجليزية، تبدو أنها أغلبية متسامحة سياسياً، طالما أنها تمثل نسبة مريحة من أغلبية المجتمع الأمريكي تصل إلى ٧٠%، بينما هناك ما يقرب من ٣٠% تُعتبر أقلية مهمشة، ولا نقول مضطهدة، تنعم إلى حدٍ كبير بالحقوق والحريات في ظل أغلبية كاسحة. فعندما بدأت توازنات التعددية السياسية (التقليدية)، بتقليص نسبة البيض إلى ما يقرب من ٥٧% كما هو الحال الآن، بدأت الديمقراطية الأمريكية تكشر عن أنيابها «الأتوقراطية»، خوفاً على ضياع تميزها السياسي (الكاسح). نفس مأساة الديمقراطية هذه نجدها في دول أخرى، تزعم أنها ديمقراطية، مثل: الهند، وإسرائيل.
الأحداث العنيفة التي تشهدها العديد من المدن الأمريكية، هذه الأيام، تجد تفسيرها في التراكمات المتراكبة والمركبة، التي ظلت تتفاعل منذ عقود، في مجتمع يقوم أساساً على المهاجرين القادمين من الخارج، وليس بالتوالد الطبيعي من الداخل، مثل كثير من دول العالم، خاصة في العالم القديم.
معضلة الديمقراطية الأساسية ليس كونها نظاماً سياسياً يمكن أن يأتي بسلطة سياسية «أتوقراطية»، لكن أيضاً: بإنتاج «تعددية سياسية أوتوقراطية»، تجازف بالمساومة على «القيم الديمقراطية» لترتمي في أحضان «أوتوقراطية طبقية مستبدة».
أخبار ذات صلة
أخبار متعلقة :