الكويت الاخباري

توثيق بلا وعي.. لا يساوي شيئاً - الكويت الاخباري

في بيئة تعاملات مرتبطة بهذا الكم من التشريعات والأنظمة المنظمة لتعاملات الأفراد والشركات فيما بينهم، أصبح التوثيق أسهل من أي وقت مضى، علماً أنه لا تزال بعض الحقوق تضيع لأن أصحابها لم يعطوها ما تستحق من تثبيت قانوني يعكس صحة العلاقة التعاقدية. المفارقة أن أغلب هذه النزاعات لا تنشأ بسبب نوايا سيئة في بدايتها، بل تبدأ بنيات طيبة وعلاقات طيّبة، وتنتهي بخصومات مُكلفة، فقط لأن أحد الطرفين قال في نفسه: «نحن نعرف بعض، لا داعي للتعقيد».

في الممارسة القانونية، كثيراً ما يُواجه الممارسون هذا السيناريو: طرف متضرر، وعقد موجود، وتوقيع ظاهر، ولكن الحقوق ضائعة، لماذا؟ لأن التوقيع بحد ذاته ليس ضماناً كافياً. فالعقد لا يُقاس بوجود الإمضاء فقط، بل بقوته كأداة إثبات متكاملة: هل حدد بوضوح ما تم الاتفاق عليه؟ هل يُظهر الالتزامات المتقابلة؟ هل يمكن تنفيذه دون الدخول في تأويل؟ هل يحمل تاريخاً، وسنداً، ووسيلة إسناد خارجية تؤكد أن العلاقة كانت جدّية ونظامية؟

والحقيقة أن كثيراً من العقود المتداولة سواء بين أفراد أو منشآت صغيرة تقع في فخ «الاعتماد النفسي» على شكل العقد لا مضمونه. ترى الناس يوقّعون عقود شراكة، أو استشارات، أو تقديم خدمات، بل حتى عقود دين، دون أن يدقّقوا في البنود، أو يُحدّدوا كيفية الدفع، أو ينصّوا على الآثار المترتبة عند الإخلال. وعند النزاع، يتحوّل العقد إلى نصوص مبهمة، تُستخدم ضد من وقّعها، بدل أن تحميه.

وقد يكون الطرف الآخر حسن النية في البداية، لكنه في لحظة خلاف أو ضيق مصلحة، يُغيّر موقفه، وهنا يُصبح إثبات ما اتُفق عليه هو الفيصل الحقيقي. وكم من عقود حملت توقيعاً، ولكنها لم تصمد يوم الوصول إلى القضاء لأنها لم تُوثّق على النحو الذي يجعلها قابلة للدفاع أمام القاضي أو جهة التنفيذ.

من واقع الملفات القانونية:

ليست هذه الإشكالات افتراضية أو نادرة، بل هي من أكثر ما يُعرض يومياً في أعمال الممارسين القانونيين. الخلاف لا يكون غالباً على أصل الحق، بل على ما يُثبته، أو يُنظمه، أو يُلزِم به. بعض النزاعات تدور حول بند جزائي لم يُكتب، أو مهلة لم تُحدد، أو تحويل بنكي لم يُربط بالعقد صراحة. وفي جميع تلك الحالات، يضيع الحق لا لضعفه، بل لضعف ما يسنده.

ولذلك، فإن الوعي القانوني الحقيقي يبدأ قبل كتابة العقد، لا بعد النزاع. وهذا لا يتطلب أن يكون كل متعاقد محامياً، ولكن على الأقل أن يُدرك ما يجب أن يُوثق وما لا يُترك للظنّ.

وهنا، لعلنا نحصر أهم ما يجب أن يُوثّق في العقود لحماية الحقوق:

• مبلغ التعاقد وطريقة سداده (دفعة مقدمة – تحويل – آجل – على دفعات).

• المدة الزمنية للتنفيذ أو الالتزام، وتحديد تاريخ واضح لبداية كل التزام ونهايته.

• غرامات التأخير: تحديد مبلغ جزائي يومي في حال تجاوز المدة المتفق عليها دون أداء الالتزام كغرامات عقود المقاولات.

• الجزاءات النظامية في حال الإخلال بأي بند، وهل يترتب عليها فسخ العقد أو تعويض مباشر.

• الجهة المختصة عند النزاع (قضاء – تحكيم مؤسسي أو حر – صلح أو توفيق).

• وسيلة التواصل الرسمية بين الطرفين (بريد إلكتروني – رقم موثّق – مراسلات).

• رقم الهوية الوطنية أو السجل التجاري للطرف الآخر، لتحديد الشخصية النظامية بدقة.

• الإقرار المتبادل بأن كل طرف قرأ العقد وفهمه ووافق عليه دون إكراه أو غموض.

كل بند مما سبق ليس مجرد «تفصيل فني»، بل هو خط دفاع في حال النزاع. ومن لا يعرف أهمية هذه التفاصيل إلا بعد وقوع الخلاف، يكون كمن يبني منزله ثم يبحث عن الأساسات بعد أن تهتز الجدران.

وفي ظل التسهيلات الرقمية التي باتت متاحة في المملكة من «توثيق»، إلى «ناجز»، إلى المنصات البنكية المعترف بها، لم يعد التوثيق ترفاً ولا تعقيداً، بل جزء من المعاملة السليمة. التوقيع على عقد لا يُغني عن المسؤولية في فحصه، كما أن العلاقة الحسنة لا تعني أن التوثيق يُسيء للثقة. بل على العكس: التوثيق اليوم هو الوجه المدني للثقة.

وهل نبدأ الآن؟

لست بحاجة لأن تكون قانونياً لتُحصّن نفسك. يكفي أن تسأل ببساطة: «هل ما بيني وبين الطرف الآخر مكتوب؟ وهل يمكن إثباته أمام جهة محايدة؟». إن كانت الإجابة لا، فابدأ الآن. لا تنتظر الخلاف لتُراجع الورقة، ولا تستبدل الثقة بالإهمال.

إذاً السؤال الأهم: هل العقد كافٍ لإسباغ الحماية؟ نعم. ولكن فقط إذا كُتب بعناية، ووقّع عن إدراك، وحمل من التفاصيل ما يكفي أن يقف وحده في مواجهة أي جهة.. حين لا يقف أحد معك.

أخبار ذات صلة

 

أخبار متعلقة :