أوصت جدتهما والدهما (مطنوخ) يزكّن على مرته (المخورة) كما يطيب لها وصفها؛ لا تغدي تليح الباب في وجه مقسّم الأرزاق، ولا تقفل بابنا بعد صلاة الصبح، وأضافت؛ وصّ سفانك الخطلان، في ذمتي لو يجي المقسم صُبحا، ويلقى الباب مليُوح ما يهب لكم إلا رمادة في خنافركم، وكان مراعاة لأمه وخشية من غضب زوجته، يردّ عليها؛ ابشري بسعدك بصوت خفيض.
نبّهت زوجة مطنوخ، ابنها (الطايح) من نومه، فرّك عيونه المغطشة بباطن الكف، ونشدها عن أخيه (الطحطوح) فقالت؛ سرح جهمة الطير، وانته ما نفضت فساك، يا كيس النوم، وكعادته بدأ يسرد على أمه حلم شافه في المنام ليضيّع الوقت، وكان باب البيت مفتوحاً، فتسللت العنز الوالد إلى الداخل، وعمدت طشت الطحين؛ ودغّت فيه، وما توقف الحلم إلا بصياح الجدّة؛ ألحقي طحينك، طحنوك، وعندما التفتت رأت براطم العنز السوداء تشعّ بالبياض، وإذا عمتها تهددها قائلة؛ يقطع نصيبي يا متى يجي ولدي لا أعلّمه بكل صغيرة وكبيرة، فقالت؛ علّميه، ما هوب انتي إللي قلتي خلي الباب مفتوح لمقسّم الأرزاق.
تناول الطايح كفكيرة الشاهي وفنجالين، والتلقيمة (دحوة سُكّر مخلوطة بورق الشاهي) وشتفة خبزة ذرة، وكان يعاتب أمه على تفضيلها للذرة التي ما يشتيها؛ فقالت له؛ كلها نعمة يا ولدي؛ فقال؛ تتفرثل؛ وما تنخفس؛ أوصته بأن لا يكسرون الفناجيل فيكسّر آبوهم لحاهم، ويملون برادهم من الكظامة، ولا يقتربون من البير، وبمجرد وصوله إلى المزرعة، لقي الطحطوح يهرّف على الطير بالمرجمة، فناوله ما في يديه، وانسدح تحت ظلّ خوط العرعر.
رشّق البراد؛ وتناول الطحطوح خصلة عنب، حاول يوقظ شقيقه، فلم يرد عليه؛ إلا بقوله؛ افطر وبقّ لي خلني أرقد، واستغرق في نومه ساعات، ثم استقعد ضحى، وطلب من أخيه يقرّب له البراد، فاقتبع ما تبقى من الشاي، وتغصّب بقرص الذرة مع حبات عنب سوداء، وتغافل شقيقه من وراه، وقال؛ بيّض الله وجهك إنك ما طفيت القبس، سأله؛ ليش صدت لنا عصافير، ردّ عليه صادتك السباع يا مدروِخ، معنا تنباك.
انقلب لون وجه أخيه وقال؛ تخسى ماني سربوت زيّك، يا سرسري؛ وقامت المعركة بينهما، ولأن (الطايح) مدهفل، نكّس برأس أخيه في الفلج، وحلف لو ما توافق تدخّن معي، لازغدك من الطين لين تشبع، رضخ المسكين للتسلط.
طلب منه يشفط من السجارة، ويكنّها حتى لا يخرج الدخان، وما غير شفط الشفطة الأولى؛ دمعت عيونه، وتعالى صوت سعاله حتى غدا يسمعه أهل البيت والوادي، وداخ به رأسه؛ فأسرع الطايح بالبراد للكظامة وجاء بالماء، وما رجع إلا وأبوه واقف فوق رأس أخيه، رمى السجارة، فطلّق عليه أبوه ليلتقطها ويكملها؛ واسودت الدنيا في وجهه وأظلمت، وصار ما يدري هو يدخن من فمه وإلا من مخارج وفتحات أخرى فالدخان يتصاعد من دماغه ومن أحشائه، وبعدما أنهاها؛ سمع عبارة (وعدنا إذا أغربت في البيت).
عرفت الجدّة بما جا وما جرى، خصوصاً عندما رأت ابنها ينزّل العَرقة ويتفقد الجازل، ولأنها ما تحب الطايح، لكثرة ما يفتّش سحاريتها، ودّها له بكمدة، وهم يتقهوون قبل المغرب؛ نسيت قُراشتها في فنجال القهوة المحوكر، فقالت زوجة ابنها؛ قرصك ذاب كُليه؛ فمدت لها قائلة؛ مشتيه؛ هاكيه كليه انتي كِلْك السِرْف.
اندس الطايح، ورا أكياس الحنطة؛ فلاحظت الجدة البسّة تحوم وتماوي، فحركت رأسها لابنها في إشارة فهم مقصودها، فمد ذراعه، وجبده بثوبه وسحبه إلى عند الزافر، اتفقت أمّه معه يصلبه وما يجلده؛ حطّت أم البيت العشا؛ قال رجالها؛ خلينا نصلّي ونتعشى، فقالت الكهلة؛ نصيحة بدوا تعشوا؛ الصلاة ما بتأكلها البسة؛ لكن إن صليتم وعشاكم في الصحن فاطلبوا من الله العوض.
لم يحتمل (الطايح) الإهانة، خصوصاً عندما صمخه الأب بلطمة طبعت أصابعه في خده، وقال؛ يمين ما تفلح يا ساقط، وهذي دقني إن أفلحت؛ ما تجكر من أخوك الطحطوح؛ فعزم الرحيل، وقال؛ والله ما عد اثنيها إلا عند خالي؛ تعاطفت معه أمه، فأعطته عيديتها ثلاثين ريال؛ وركب مع أهل اللواري صبح، وثالث يوم وهو في المحايدة، وما أمضى سبع سنوات إلا وهو يرطن مع الخواجات، ويسكن مع السّنيَر؛ وبقي الطحطوح عند البلاد؛ يثبّي ويعبّي ويتذكّر شقيقه الذي كان يتسدح ويتبطح، وماتت الجدة، والأب؛ والأم؛ ونسي الطحطوح حتى الزواج، أو زهد فيه، وكان يمرّ بغنمه على قبر جدته ويقول؛ الظاهر يوم جا مقسّم الأرزاق يا جدة لقي آخي الطايح وما لقيني، كنت في الوادي، مع الصباح النادي؛ والبلبل الشادي.
أخبار ذات صلة
أخبار متعلقة :