من هذا المنطلق، تنهض السعودية اليوم بمشروع وطني متكامل، لا ينطلق من استجابات ظرفية ولا يُبنى على انفعالات آنية، بل يستند إلى رؤية واعية تستقرُّ جذورها في الداخل، وتنفتح في آنٍ على الخارج، دون أن تفقد تمركزها حول مصالحها الوطنية. فالمملكة لا تُعيد تموضعها السياسي والاقتصادي ضمن خرائط الآخرين، بل تُعيد رسم الخرائط ذاتها، بصيغة تجعلها مركزًا للقرار لا هامشًا للنفوذ، وصاحبة كلمة مسموعة لا مجرد صدى لغيرها.
ويبرز هذا التوجه بوضوح في مقاربتها السياسية للعلاقات الدولية، حيث تتبنى المملكة نهجًا براغماتيًّا متزنًا يُعلي من قيمة المصالح المشتركة دون أن يُقايض استقلال الموقف بمكاسب وقتية. فهي لا تنخرط في محاور ضاغطة، ولا تنجرف نحو اصطفافات لحظية، بل تعيد تعريف أدوار القوى من موقع المتأمل الناقد، لا المبهور المنقاد. علاقاتها مع الولايات المتحدة، كما مع الصين وروسيا (وغيرهما)؛ تُبنى على أسس الشراكة الندِّية والاحترام المتبادل، لا التبعية السياسية أو التماهي مع أولويات الغير. وفي هذا السياق، تثبت المملكة أنها تُبادر ولا تُستدرج، تُوازن دون أن تتأرجح، وتُنسِّق من موقع الفاعل لا من موقع المُستجيب لحسابات اللحظة أو ضغوط الإعلام.
هذا الاتزان في السياسة يوازيه مسارٌ اقتصادي أكثر جذرية، إذ لم يعد التنويع الاقتصادي شعارًا تردده البيانات، بل أصبح واقعًا تُعيد المملكة عبره بناء هيكل الاقتصاد الوطني على أسس إنتاجية صلبة تُكرِّس المنعة الذاتية وتُعزز الاستقلال المالي والسيادي، فرؤية السعودية 2030 لم تأتِ لتخفيف الاعتماد على النفط وحسب، بل لتأسيس اقتصاد متكامل تنبع قوته من الداخل، وتنبسط آفاقه نحو الخارج بشروط وطنية خالصة. وفي قلب هذا التحول، يبرز قطاعا الصناعة والتعدين بوصفهما محورين رئيسيين في صياغة المستقبل الاقتصادي، فقد أصبحت الصناعة السعودية حاضنة للنمو المحلي، ومحرِّكًا للتوظيف النوعي، ومنصة للتصدير والمنافسة الدولية، أما قطاع التعدين، فلم يعد حبيس الموارد الخام، بل تحوَّل إلى منظومة متكاملة تتداخل فيها الجيولوجيا بالسياسات التنظيمية، والاستكشاف العلمي بالاستثمار الإستراتيجي، لتضع المملكة في موقع متقدم على خارطة المعادن العالمية.
ويتَّسق هذا التوجه مع مقاربة المملكة لملف الطاقة، الذي يُعد من أكثر ملفات السيادة تعقيدًا وأهمية. فالمملكة، عبر تحركاتها في إطار «أوبك+» لا تُدير مواردها بمنطق الانفعال، بل بمنطق التوازن، وقرارات خفض الإنتاج التي تتخذها عندما تستدعيها الظروف لا تعبِّر عن انغلاق أو تعنُّت، بل عن إدراك دقيق لديناميكيات السوق، وحرص على حماية المصالح الإستراتيجية لجميع الأطراف. وفي الوقت ذاته، لا تقف المملكة عند حدود دورها التقليدي في سوق النفط، بل تستثمر بعمق في مستقبل الطاقة من خلال مشروعات ضخمة في الطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف، لا كخيار مكمل، بل كمسار سيادي جديد يُعزز حضورها الجيو-اقتصادي، ويمنحها أدوات التأثير في السوق العالمي الآتي.
إن ما تقوم به المملكة اليوم لا يندرج ضمن إصلاح جزئي أو تعديل موضعي، بل هو إعادة بناء شاملة لمفهوم الدولة الحديثة، بما يُوازن بين الانفتاح والثوابت، ويُراكم القوة دون استعراض، ويحفظ القرار دون عزلة، إنها لا تبحث عن أدوار تُمنح لها، بل تُعيد كتابة المعادلة بشروطها الخاصة، منطلقة من ثقافتها، منفتحة على العصر، وواعية أنَّ القوة الحقيقية لا تكون في التبعية، ولا في الصدام، بل في الحضور الرشيد.
وبينما يتخبط البعض في ازدواجية الخطاب وتضارب التوجهات تُعيد المملكة ترتيب أولوياتها، وتُحكم أدواتها، وتتحرك بثقة نحو موضعها الطبيعي كدولة فاعلة تعرف متى تتقدم، ومتى تنتظر، ومتى تفرض المعادلة.
ومضة:
في زمنٍ تتغير فيه الخرائط كل صباح، يبقى الفرق جوهريًّا بين من يركض وراء الأحداث.. ومن يصنع الحدث ذاته!
أخبار ذات صلة
أخبار متعلقة :