فديتك يا سيداً ماثلاً في دمائي
أفاصلك الآن في نظراتي.. وأقسم ألاّ سواك يمزقني
حين آوي إلى جبهتي الباردة
أنت مني
سوى أنني نافر منك عني
ومن ذا يرى نافراً من دمه ؟
أمزق وجهي عليك
ولكنني حين أدنو
أراك تتابع ما أصطلي
ثم تشنقني بالدمع والتعاويذ والتمتمات.
ترى كم سكنا قباب البكاء ؟
وكم ننحني فوق فكرتنا الجاحدة ؟
فإذا لم تكن ذات الشاعر هي المنادى بها هنا بالسيد، تلك المختبئة في أعماقه، فما عساها أن تكون؟!
وربما محمد زايد في مواقع كثيرة من قصائده يعطي الشعر قدراً من التجلي تحت تسميات عديدة من الكلمات أبرزها «الولد»، فظاهر الكلمة لا تعني باطنها، لكنها أيضاً لا تشكل عنده رمزاً شعريّاً كما نراه عند بقية الشعراء من جيله، بل هو هاجس يلح عليه إذا ما ألح عليه الشعر، يستمده من عالم طفولته ومن وجدانه الذي لا ينفك يحفزه على رؤية العالم بعيون بريئة كالطفل؛ حتى يستطيع تشكيل العالم من جديد، يقول:
علمني الولد الأنقى
الولد المجنون
الأسعد والأشقى
أن أقترح سماوات داكنة
غامضةً
فأرتبها نجما
نجما
وألاقحها برقا
برقا
علمني:
أن أتشبث بالأسئلة الأولى
كي أبقى،
قال:
ازدد رفضا
تزدد عمقا!
وظل محمد زايد يحمي قصيدته من سقوطها في فخ الصرامة العقلية للفكر، ويذود عنها صلابة الأفكار الكبرى باعتبار خلوها من الحساسية الإنسانية التي جرفت معظم تجارب شعراء الحداثة في الوطن العربي. فديمومة الشعر وسيولته عند الشاعر محمد زايد تكمنان في خبرته الروحية وليس فكره ووعيه الوجودي المجرد وحسب، وإن كان يوظف هذه في تلك، ولكن توظيفاً يكسب الشعور الإنساني عمقاً وأكثر صفاء للمعنى والدلالة، يقول:
دائما أتعثّر بأشياء تافهة
لا تستحق الشعر
أشياء تشبه وعثاء الفكرة
وعثاء الزمن المنحط
تشيه مخبولين يرجمون السابلة
ويشتكون لقبور آبائهم
من قطاع طرق
يسلبون منهم البكاء
ويقرأون الفاتحة..
دائما أجدهم يتآكلون
وتنمو في ترابهم
أشياء تافهة
لا تستحق الشعر!
التافه من الأشياء الذي لا يستحق الشعر لا يقوله محمد زايد انطلاقاً من موقف مسبق يسميها «وعثاء الفكرة والزمن المنحط»، إنما يقوله وفق ما يضفي عليه إحساساً مكثفاً لا ينشأ سوى من خبرة الذات بالحياة: فأفعال التعثر وأجدهم ولا تستحق هي روافد لهذا الإحساس، يدعمها بالمقابل الصورة الشعرية التي تعمق الخبرة بهذا الإحساس: مخبولين يرجمون السابلة...
لذلك ما لا يستحق الشعر يتوارى خلفه ما ينبغي أن يقال، وما ينبغي أن يتسرب إلى سطح القصيدة كي نحس معه بالتافه من الأشياء.
هكذا يمسك محمد زايد من زمام قصيدته، يقلّبها على جمر الاحتراب الداخلي بين ما يفور به وجدانه وبين ما يراه عقله ووعيه، حتى إذا ما نضجت واستوت دون أن ينتصر طرف على آخر، فاحت رائحتها ونضج جلدها وهيأت نفسها للمتلقي على أتم ما يُرتجى.
وهذا مثال واحد من بين العديد من الأمثلة الأخرى التي يمكن أن نستلها من تجربته، لتؤكد لنا أن قصيدته تذهب إلى عمق الحياة لاقتناص حقيقتها واستخراج كنوزها المخبوءة في الأرض، كل ذلك وهي مدفوعة بوجدانه وبوعيه المتلازمين كطفلين سياميين.
أخبار ذات صلة
أخبار متعلقة :