مكة المكرمة ـ عندما يتوافد أكثر من مليوني حاج إلى المشاعر المقدسة، تتحوّل مكة المكرمة ومحيطها إلى قلب نابض لا يهدأ، تديره منظومة معقدة من البشر والتقنية والخطط اللوجستية.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه عدسات الإعلام بنقل الشعائر والمشاهد الروحانية، يبقى الجزء الأكبر من القصة مختبئا خلف الكواليس، إذ هناك آلاف الموظفين والمتطوعين والمهندسين والجنود والأطباء، وكل من يكرّس جهده لخدمة الحجاج، في مهمة يعاد تكرارها كل عام لكن لا تتشابه تفاصيلها أبدا.
ويعد موسم الحج مشروعا سنويا ضخما يبدأ الإعداد له بمجرد انتهاء الموسم السابق، حيث تدخل في التخطيط أكثر من 40 جهة حكومية وخاصة، ويجري تقييم شامل لكل ما حدث في الموسم السابق، بما في ذلك التحديات والحوادث الطارئة، ليبنى عليها تحسين وتطوير مستمر.
تشير مصادر في وزارة الحج والعمرة إلى أن فرق العمل تبدأ في عقد اجتماعات دورية منذ شهر محرم من كل عام، وتستمر بوتيرة تصاعدية حتى شهر ذي الحجة، وتشمل مراحل التخطيط تصميم جداول التفويج، ومسارات الحافلات، وتأمين الإعاشة، وتوزيع الخدمات الصحية، وربط البيانات المركزية بين الجهات المشاركة.

القيادة والسيطرة
ويعد مركز القيادة والسيطرة لأمن الحج، الواقع في مشعر منى، قلب إدارة الحج، فمن هذا المركز تدار حركة الحشود، وتراقب كافة المواقع الحيوية في الحرم والمشاعر لحظة بلحظة.
إعلان
المركز مزود بشاشات عملاقة تعرض بثا مباشرا من آلاف الكاميرات المنتشرة، كما يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الكثافة السكانية واكتشاف أي ازدحام غير طبيعي قد يتطلب تدخلا سريعا.
وتتكامل خدمات المركز -الذي يعتمد بشكل أساس على ما يتوافر به من كاميرات عالية الجودة على امتداد المشاعر وفي المنطقة المركزية- مع ما تقدمه القيادات المركزية في الميدان لنقل الصورة مباشرة ومتابعة الحالات وتوجيه العاملين الميدانيين لهذه الحالات.
ويدار المركز في أغلب مراحل عمله عبر الوسائل التقنية الحديثة من خلال غرفة المراقبة التلفزيونية بالمركز، إضافة إلى متابعة الأحداث على مساحة أعمال الحج كاملة.
ومن غرفة القيادة إلى غرفة الرصد والتحكم، يتم تتبع البيانات اللحظية المتعلقة بالحجاج منذ مغادرتهم بلدانهم وحتى عودتهم بعد أداء المناسك، مرورا بجميع مراحل السكن والنقل والإعاشة والتفويج.

ويقول مدير الإعلام العام بوزارة الحج والعمرة مروان الزهري إن غرفة الرصد والتحكم ليست غرفة عمليات تقليدية، بل هي نموذج للحج الذكي، مضيفا أن الغرفة تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتحليلات البيانات، وشبكة من الكاميرات والأنظمة المرتبطة بالمخيمات والمساكن والحافلات، لتقديم حلول استباقية، وليس مجرد ردود فعل.
ولفت الزهري، في حديث للجزيرة نت، إلى أن الغرفة تتابع بدقة عمليات تفويج الحجاج إلى الحرم المكي والمشاعر المقدسة، وتتحقق من التزام الجداول الزمنية لخروج الحجاج من مساكنهم وأدائهم الشعائر وعودتهم في الوقت المحدد، لضمان انسيابية الحركة وتقليل التكدس.

الجانب اللوجستي
ويعد نقل أكثر من مليوني إنسان في وقت واحد من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، فالمزدلفة، ثم العودة إلى منى، عملية لوجستية هائلة أشبه بإدارة حركة دول بأكملها في أيام معدودة، وتعمل منظومة النقل وفق نظام التفويج الزمني المحدد مسبقا.
إعلان
وتسهم قطارات المشاعر التي تنقل آلاف الحجاج بين المواقع المقدسة، في تخفيف الضغط على الطرقات، خصوصا في أوقات الذروة.
وتسخر منظومة نقل الحجاج أكثر من 45 ألف موظف وموظفة لتنفيذ خططها خلال موسم الحج، مع تجهيز أكثر من 7 آلاف رحلة طيران مجدولة من 238 وجهة حول العالم عبر 62 ناقلا جويا، باستخدام 12 صالة سفر في 6 مطارات، ووفرت أكثر من مليوني مقعد عبر قطار الحرمين بزيادة تقدر بنحو 400 ألف مقعد عن العام الماضي، إلى جانب تشغيل 2500 رحلة لقطار المشاعر.
وفيما يخص النقل البري، قالت وزارة النقل السعودية إنه تم تجهز أكثر من 25 ألف حافلة و9 آلاف سيارة أجرة، وتخصيص 18 مسارا لنقل ضيوف الرحمن بين المدن، كما دشنت المنظومة مركز النقل العام لضمان سهولة وانسيابية حركة الحجاج.
حج بلا حقائب
ويقول المتحدث الرسمي للهيئة العامة للنقل السعودية صالح الزويد إن المبادرة النوعية لنقل الحقائب من المطارات إلى مساكن الحجاج دون الحاجة لحملها، قد أسهمت في التيسير على عشرات الآلاف من الحجاج ضمن مشروع "الحج بلا حقائب" الذي نُفذ بالتعاون مع عدة جهات لوجستية.
كما صرح الزويد بأن الوزارة أجرت أكثر من 270 ألف عملية فحص فني للحافلات ووسائل النقل المعتمدة للتأكد من استيفاء معايير السلامة. وشملت الاستعدادات أيضا تجهيز مناطق الاستراحة على الطرق المؤدية إلى المشاعر المقدسة بأجهزة تكييف ودورات مياه ومياه شرب بما يضمن راحة الحجاج أثناء تنقلهم.
وأشار المتحدث إلى التوسع في تقنيات تبريد الطرق بنسبة 88% مقارنة بالعام الماضي لتشمل مسارات الحجاج في المناطق المجاورة لمسجد نمرة وقطار المشاعر، مما أسهم في خفض درجات الحرارة السطحية بمتوسط 12 درجة مئوية. كما تم توسيع نطاق تطبيق تقنية "الطرق المطاطية" بنسبة 33% بهدف تعزيز راحة الحجاج خلال تنقلاتهم في أجواء الصيف.
إعلان
الرعاية الصحية
موسم الحج يتطلب استعدادا صحيا على مستوى الكوارث، فإلى جانب الإجهاد الحراري والأمراض المزمنة، هناك احتمال دائم لظهور أمراض معدية أو طارئة.
وتدير وزارة الصحة السعودية أكثر من 25 مستشفى ميدانيا وثابتا، تضم أكثر من 5 آلاف سرير، وعيادات متنقلة، وفرق إسعاف عالية التجهيز، كما تنتشر فرق الاستجابة السريعة وفرق الصحة العامة لمراقبة أي أعراض وبائية.
ويشير الدكتور ناصر الفهيد، من الهلال الأحمر السعودي، إلى أن "الاستجابة لأي حالة طبية تبدأ في أقل من 8 دقائق داخل المشاعر بفضل الانتشار الواسع والدعم اللوجستي الكبير".
ويقول وزير الصحة السعودي فهد بن عبد الرحمن الجلاجل إن "الاستطاعة الصحية" تعد ركيزة أساسية في تمكين الحجاج من أداء مناسكهم بأمان، وتجسد التوجه نحو تعزيز الوقاية وتكامل الخدمات الصحية بأعلى معايير الجودة.
واستعرض الجلاجل خلال مشاركته في ندوة الحج الكبرى التقنيات الصحية المتقدمة التي فعّلت هذا العام، ومن أبرزها استخدام الطائرات المسيرة (درون) في نقل الأدوية الحيوية داخل المشاعر، مما أسهم في تقليص زمن التوصيل إلى نحو 5-6 دقائق.
وأشار إلى إنجاز الفرق الطبية في التعامل السريع مع السكتات الدماغية بكفاءة عالية، حيث قُدم العلاج خلال 16 دقيقة فقط، إلى جانب دور الروبوت الجراحي في مدينة الملك عبد الله الطبية في إجراء عمليات دقيقة تسهم في تسريع التعافي وتحسين جودة الرعاية.
إعلان
أياد بيضاء خلف المشهد
يعمل أكثر من 30 ألف متطوع ومتطوعة في موسم الحج، موزعين على قطاعات متنوعة تشمل الترجمة والإرشاد والخدمات الطبية والإعاشة والدعم النفسي.
وفي مشعر منى، يمكن رؤية متطوعين شباب يحملون لافتات بلغات متعددة لمساعدة الحجاج من دول لا يتحدث سكانها العربية أو الإنجليزية، في حين يعمل بمستشفيات المشاعر آخرون جنبا إلى جنب مع الطواقم الطبية.
تقول نورة الحربي، وهي متطوعة للمرة الثالثة، "دعاء حاج عجوز لك بعد أن ترشده أو تساعده يساوي كل التعب. هذه تجربة حياتية وروحية لا توصف".
تحول رقمي
مع تسارع التقنية، أصبح الحج أكثر رقمية من أي وقت مضى، فتطبيق "نسك" الموحد للحجاج يوفر خدمات شاملة، مثل الجداول الزمنية والخرائط التفاعلية والتعليمات الشرعية وأرقام الطوارئ.
كما تمكن بطاقة الحاج الذكية الجهات الأمنية من تتبع الحاج وتقديم الدعم له بسهولة، إضافة إلى تسهيل الدخول والخروج من المشاعر، وضمان توجيهه الصحيح.
وأعلنت وزارة الحج أن أكثر من 90% من العمليات الإدارية والخدمات اللوجستية أصبحت رقمية أو شبه رقمية في موسم 2025، مما يسهم في تقليل الأخطاء البشرية وزيادة الكفاءة.
ومن التقنيات الجديدة التي تهدف إلى تعزيز سلامة الحجاج في موسم الحج لعام 2025، استخدام ساعات ذكية متطورة تراقب الحالة الصحية للحجاج لحظة بلحظة، تتميز هذه الساعات بتصميم يشبه الساعات التقليدية، مما يساعد في الحفاظ على خصوصية الحاج وعدم إشعاره بالعزلة.
كما أنها مزودة بتقنية تحديد المواقع "جي بي إس" لتحديد موقع الحاج بدقة، مما يسهل تقديم المساعدة في حالات الطوارئ، وتُرسل البيانات التي تجمعها هذه الساعات إلى مركز صحة الافتراضي في مدينة الملك عبد الله الطبية بمكة المكرمة، حيث يتم تحليلها ومراقبتها من قبل فرق طبية متخصصة.
إعلان
0 تعليق