إرث فرنسيس ومعضلات البابوية في عالم متغير - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة
حسام شاكر، حسام شاكر

21/4/2025-|آخر تحديث: 21/4/202505:35 م (توقيت مكة)

لم يكن بابا الفاتيكان فرانسيس شخصية نمطية. تولّى فرانسيس البابوية بعد سلفه الكاردينال الألماني راتسينغر الذي كان حبرًا معروفًا ومؤلفًا غزير الإنتاج وتسمّى باسم بينيدكتوس السادس عشر، فكان بابا الكلمة والنصّ، ومن قبله البابا البولندي يوحنا بولس الثاني، الذي كان بابا الصورة والمشهد واللفتات الودية ومحاولة استمالة الشباب، بينما امتاز فرانسيس بأنه كان بابا المواقف الجريئة والمشاهد الإنسانية والنزوع إلى إظهار التواضع والتودّد إلى الشرائح الضعيفة والمهمّشة.

عُرِف خورخي ماريو بيرغوليو منذ أن تقلّد البابوية عام 2013 وحمل اسم فرانسيس بإطلالاته الودودة وبعض مواقفه وتصريحاته التي قوّضت تقاليد وأعرافًا راسخة ارتبطت بالمنصب الديني الأبرز. لا عجب أن صدر هذا من البابا الفاتيكاني القادم من أميركا اللاتينية بعد أن احتكر الأوروبيون الموقع. كان ذلك مشهودًا في المجال الطقوسي أيضًا، فبدلًا بغسل أقدام الكرادلة في عيد الفِصح – مثلاً – اعتاد الأرجنتيني فرانسيس منذ توليه المنصب الأبرز في الكنيسة غسل أقدام "بدائل" عنهم، اختارهم من شرائح مهمّشة وضعيفة مثل الفقراء وطالبي اللجوء ليلقوا تكريمًا رمزيًا بموجب الطقس الذي يحاكي غسل المسيح عليه السلام أقدام الحواريين؛ طبقًا للرواية الكنسية.

إعلان

وبعد أن ارتبط اسم بينيدكتوس السادس عشر في العالم الإسلامي بإساءة مقيتة للرسول الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم- سنة 2006؛ أعرب خلفه فرانسيس عن مواقف تضامنية مقدّرة مع المسلمين في محطّات ساخنة؛ منها واقعة "شارلي إيبدو"، الصحيفة الفرنسية الهابطة التي أساءت إلى الإسلام بطريقة مُهينة، فقال للصحفيين في هذا الصدد عام 2015: إنّ "من يُسيء إلى أمِّي عليه أن يتوقع لكمة في وجهه"، وقصد من ذلك أنّ غضب المسلمين من ازدراء مقدّساتهم سلوك منطقي ومفهوم وليس تطرّفًا.

لكنّ المواقف المبدئية التي تقدّم فيها فرانسيس بمراحل على أسلافه في البابوية؛ تعثّرت في محطات أخرى وتخلّل بعضها كبوات فادحة، كما جرى خلال زيارته ميانمار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، في ظلال ذروة حملات التطهير العرقي وقتها بحق الروهينغا المسلمين، الذين جرى تشريد ثلثَيْ مليون من ضعفائهم إلى خارج الحدود في شهور قليلة.

التقى فرانسيس خلال زيارته قيادات عسكرية ومدنية وكهنوتية ضالعة بشكل مباشر أو غير مباشر في استمرار مأساة الروهينغا التي تُنكِر رانغون وقوعها.

اكتفى بابا الفاتيكان خلال زيارته الإشكالية بلغة دبلوماسية رمزية فاترة تحاشى فيها تسمية الأشياء بأسمائها، فبدا هذا تهاونًا جسيمًا من رأس الكنيسة الكاثوليكية مع فظائع لم يجرؤ على مجرد الإشارة إليها بوصف يليق بها؛ فضلاً عن عدم تسميتها بالتطهير العرقي أو الإبادة.

وجاء امتناع فرانسيس خلال الزيارة عن التلفّظ بكلمة "روهينغا" ليؤكد أنّ الفاتيكان اختار عدم مكاشفة مضيفيه بالحقائق.

إنها معضلة التوازنات والتجاذبات الفاتيكانية الشاقّة في السياسات والمواقف؛ بين السياسيِّ الدنيوي والمبدئي الأخلاقي، وهذا لدى جهة واسعة النفوذ تجمع الصفة الدينية الروحية التي تعلن الارتباط بالسماء؛ مع السلطة المؤسسية والمصالح الرعوية؛ فالفاتيكان يبقى "دولة" لها مصالح وأتباع وشبكات نفوذ، وإن كانت دولة مصغّرة أو رمزية وإن قادها "خليفة بطرس".

تشهد فلسطين، بوضوح، على جانب من هذه المعضلة، فالمواقف الفاتيكانية رغم تعبيراتها الإيجابية غالبًا إلّا أنها تبدو فاترة ودبلوماسية للغاية حتى عندما يتعلّق الأمر بانتهاكات الاحتلال مصالح كنسيّة في "الأراضي المقدسة".

إعلان

وإن وجّه فرانسيس انتقادات للعدوان الوحشي الذي يشنّه جيش الاحتلال على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وأعرب عن انشغاله بمعاناة الأهالي من الحصار الخانق والتجويع، وآخرها قبيل وفاته مباشرة، إلا أنّ مواقف البابوية والفاتيكان عمومًا بقيت دون مستوى المأمول بالنظر إلى فظائع الإبادة الجماعية المديدة تحت أنظار العالم، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل الضارية التي أبداها متحدثو الاحتلال بعد مواقف الفاتيكان تلك.

واقع الحال أنّ صعود شخصية لاتينية إلى منصب البابا لم يجلب إلى حاضرة الفاتيكان مفاهيم نضالية مثل "لاهوت التحرير" الذي عُرف في أميركا اللاتينية، فبقي الخطاب الكاثوليكي على حاله تقريبًا الذي قد يمجِّد التضحية والاستشهاد بالمفهوم السلبي أو غير المبادر، ويحصر ذلك تقريبًا في السياق الديني.

آية ذلك أنّ فرانسيس ذاته استحضر فكرة "الاستشهاد" خلال "عيد الميلاد" في أواخر سنة 2018 ليبارك الشهداء الذين يقدِّمون دماءهم وحياتهم، بتغريدة نشرها في حساباته الرسمية على "إكس/ تويتر". خصّص بابا الفاتيكان منشوره حينها لتمجيد الشهداء "الذين يقدِّمون أرواحهم لأجل المسيح"، مشيرًا إلى" أنهم اليوم كُثُر وإن لم يَحظَوْا بعناوين الأخبار".

يجوز الافتراض أنّ بابا الفاتيكان كان قادرًا على تجييش العالم ضد حملة إبادة جماعية وتطهير عرقي وحرب تجويع وجرائم ضد الإنسانية مشهودة بالألوان عبر البثّ المباشر على مدار الساعة، وأنّ ذلك كان مؤهلًا لكبح تلك الوحشية ووضع حدّ لها بما يمتلكه موقع البابوية من رصيد عالمي ومخزون تفعيلي، لكنّ الفاتيكان لم يكن يومًا مؤسسة نضالية أو راعيًا لتحرُّر الشعوب، وظلّ متمسِّكًا بالوقار في التعبير والمواءمات في المواقف، وليس من شأن هذا المنحى تحريك ساكن أو تسكين متحرِّك.

لم تكن الكنيسة الكاثوليكية خلال عهد فرانسيس في أفضل أحوالها، فقد أثقلتها فضائح الأديرة والمدارس الداخلية، وتآكل أتباعها في معاقلها الأوروبية وغيرها، ولم تتمكن من صدّ عواصف قيمية واجتماعية من قبيل الملفات الجندرية الشائكة، وصارت تتحصّن أكثر فأكثر بالتعبيرات الخجولة والالتفافية عن المواقف الحسّاسة.

إعلان

وما زالت البيروقراطية الفاتيكانية في مواجهة تساؤلات وشكوك بشأن مدى ملاءمتها للعصر وجاهزيتها للشفافية والإفصاح، بما في ذلك كيفية إدارة الأصول والموارد والأموال، علاوة على تعثُّر محاولات الإصلاح الهيكلي في السلك الكنسيّ خاصة بشأن الرهبنة والزواج ودور المرأة.

ويبقى العالم الآن في انتظار هذه البيروقراطية كي تبعث دخانًا أبيضَ في سماء حاضرة الفاتيكان مؤذنة باسم جديد سيحلّ محل فرانسيس الذي فرض تقاليد جديدة على من سيتعاقبون على الموقع الكنسيّ الأبرز في العالم ليجد أعباء ثقيلة في انتظاره.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق