في حلقة جديدة من برنامج “أصوات الشام”، استضاف الإعلامي والمنشد يحيى حوى، المنشد السوري عمار صرصر، في حديث استثنائي حمل المستمعين في رحلة تأملية عبر محطات من مسيرته الفنية والإنسانية، المفعمة بالتجربة
صرصر، الذي عرف بصوته العذب وأدائه الهادف، لا يقف عند حدود الإنشاد، بل امتد حضوره إلى مجالات تبدو بعيدة للوهلة الأولى، إذ يجمع بين فن الصوت وعلوم البرمجة وهندسة الحاسوب، في صورة لافتة لقدرة الإنسان على الجمع بين عوالم متباينة، يوحدها شغف الإبداع وحسّ الرسالة.
يستهل حوى اللقاء (يمكن متابعته كاملا عبر هذا الرابط)، لافتا النظر إلى "السمت المميز" الذي يطبع شخصية ضيفه، والذي رآه لا ينحصر في كونه منشدا فحسب، بل يمتد لتشمل بصمة فريدة في اختياراته وتوجهاته.
ومن هنا، يبدأ صرصر في فكّ خيوط هذا التكوين، مرجعا إياه إلى نشأة ملتزمة في كنف القرآن ودروس العلم، حيث بزغت موهبة الصوت، لكنها لم تكن يوما هي الأساس الذي بُنيت عليه شخصيته.
وفي ذلك يقول: "كنت دائما ماشي بطريق العلم"، بينما يظل هاجس أداء حق هذه الموهبة الصوتية يلحّ عليه، موجها إياها نحو الدعوة إلى الله وتذكير الناس به.
محطات مؤثرة
وفي هذا النسيج المتفرد لشخصيته، تبرز محطات ومؤثرات كان لها بالغ الأثر، أولها مع والديه الذين غرسا فيه بذور الالتزام، ثم أستاذه منذر سرميني "أبو الجود"، الذي لم يكن مجرد ملهم، بل "قدوة رقم واحد" على حد تعبيره.
تتلمذ المنشد عمار على يدي أبو الجود في فرقته، ورأى فيه الداعية قبل المنشد، ويستذكر صرصر، وهو ما طبع في وعيه رسالة أن يكون إنشاده دوما للتوجيه والإرشاد، ليس بالقول فحسب، بل بالحال والأخلاق التي عايشها عن كثب.
إعلان
وإن كان "أبو الجود" قد صقل توجهه الفني، فإن لوالدته فصلا آخر في مسيرته القرآنية، فيروي صرصر بحنين كيف دفعته أمه لحفظ كتاب الله، مستخدمة شتى السبل، من الترغيب إلى "العنف اللطيف" كـ"شد الأذن"، الذي كان، رغم بساطته، ذا وقع حاسم في صغره.
لكن الدافع الأعمق تجلى في هدفها النبيل: "أنا ما رح آخذ الإجازة إلا عندك"، وهذا الطموح الأمومي أشعره بمسؤولية مضاعفة، تكللت بالنجاح حين أجازته والدته على يد الشيخ أبو الحسن الكردي، بل وامتد الأثر لتصبح هي نفسها تُقرئ وتُجيز، حاملة إجازات طلابها توقيع ابنها، في صورة من صور البر والخير الممتد.
ولم تكن هذه الروح القرآنية حبيسة الذكريات، بل تجلت حين صدح صوته بتلاوة عطرة من سورة الفتح، أعادت للأذهان تلك الليلة الرمضانية الفريدة في إسطنبول، حين أمّ المصلين في مركز تجاري لم يُفتتح بعد، فتحول بطوابقه إلى مسجد يعجّ بالمصلين في ليلة القدر.
ومع ذلك، يبقى حلم تسجيل ختمة قرآنية كاملة يراوده، واعدا بالسعي لتحقيقه ليكون أثرا باقيا.
من القرآن إلى البرمجة
ومن محراب القرآن، ينتقل الحديث بسلاسة إلى عوالم البرمجة، كاشفا عن شغف آخر لا يقل عن حبه للإنشاد، ويقول في ذلك "أعشق فرعي، أعشق البرمجة وهندسة البرمجيات"، مؤكدا أن الجمع بينهما ممكن، وإن تطلب تضحيات.
وعندما يُستعاد شريط البدايات الفنية، تبرز أنشودة "تسمعني رباه" كنقطة انطلاق قدمته للجمهور، وهنا يواجهه حوى بسؤال مباشر عن اقتباس لحنها، وبصراحة لا تخلو من اعتراف بتحديات تلك المرحلة، يجيب صرصر: "من لم يكن له بداية محرقة، لن تكون له نهاية مشرقة".
يصف صرصر تلك الفترة بأنها "وقت ضائع"، جيلٌ وجد نفسه بين قديم وناشئ، بإمكانيات شبه معدومة، فكان اللجوء لألحان معروفة وتطويعها بكلمات جديدة هو السبيل المتاح، ليس كسرقة، بل كمحاولة شبابية عفوية لتقديم محتوى هادف.
إعلان
ويمتد عطاء صرصر الفني ليلامس قضايا الأمة، من غزة الجريحة إلى سوريا النابضة بالأمل، حيث يؤمن بأن النشيد يجب أن يكون صوتا لكل قضية عادلة، خاصة تلك التي تشكل الوجدان الجمعي.
ويرى صرصر أن للفن قوة في تشكيل الوعي وخدمة قضايا الأمة، معتبرا إياه واجبا لربط الناس عاطفيا بها، وفي لحظة صدق، يروي بحرقة قصة عمل ندم على تقديمه، ليس لمحتواه، بل للجهة التي استغلته لاحقا في الترويج لشخصيات يرفضها مبدئيا، مما دفعه للمطالبة بحذفه فورا.
ومع ذكر سوريا، تتألق أنشودة "فتح الشام" التي قدمها بعد انتصار الثورة، بروح دعوية تربط النصر بالقيم الإيمانية، وعندما وُضع أمام خيار المساهمة في بناء سوريا كمبرمج أو كفنان، لم يتردد في اختيار الفن، ليس لمكسب مادي، بل لقناعته العميقة بأن "الفن يبني الإنسان".
علامة فارقة
وكانت أنشودة "في زمن الجور حلم مبرور" علامة فارقة أخرى، رغم صعوبة كلماتها، فقد حلقت في الآفاق ورددها الصغار قبل الكبار، ويرجع صرصر سر هذا القبول إلى "الروح" التي يبثها في العمل، تلك الروح التي تتجاوز حواجز اللغة والفهم.
لكن هذه المسيرة لم تخلُ من محطات الألم، فيروي بمرارة قصة مغادرته القسرية لسوريا، بعد ملاحقات أمنية واعتقال، وتلك اللحظة التي خرج فيها "وقلبه مخلوع"، ومع ذلك، كانت الغربة، رغم قسوتها، مدرسة صقلت تجربته ووسعت آفاقه، وربما منحته تقديرا أكبر في وطنه وخارجه.
وفي منعطف فني، يعرب صرصر عن أسفه لهيمنة مقام "الكرد" على الذائقة المعاصرة، متمنيا عودة التنوع للمقامات الشرقية الأصيلة كالـ "سيجا" والـ "راست"، ملمحا إلى دور وسائل التواصل في توجيه الأذواق. وللتدليل على ثراء التراث، يشنف الأسماع بمقطع ساحر على مقام السيجا، باعثا الشوق إلى زمن الطرب الأصيل.
كما يتناول الحوار قضية الجلسات الصوفية و"الحضرات"، موضحا أن التدين الشامي يحمل في طياته نفسا صوفيا يركز على "الإحسان" وتزكية القلب، مع ضرورة التمييز بين الذكر الجماعي المشروع والممارسات التي قد تشوبها المبالغة، مؤكدا على أهمية الاعتدال والوسطية.
إعلان
وتناول اللقاء الحديث عن المخيمات التربوية، التي يعتبرها من أنجع الوسائل الدعوية لغرس القيم عمليا في نفوس الشباب، حيث يشكل النشيد عنصرا أساسيا في جلسات الأنس والترويح، مرددا أنشودة "ما لنا مولى سوى الله" التي يجد فيها الشباب ضالتهم ويتفاعلون معها بحماس.
0 تعليق