نهر دجلة واحد من أهم الأنهار في التاريخ، يمتد من جبال الأناضول في تركيا، مرورا بسوريا والعراق، ليغذي أرض الرافدين، التي كانت مهدا للحضارات البشرية. دجلة ليس مجرد مجرى مائي، بل هو رمز للثقافة ومصدر رئيسي لاستقرار الحياة البشرية على ضفافه.
الموقع والحدود
يقع نهر دجلة في منطقة الهلال الخصيب، وهي منطقة تاريخية في غرب آسيا ذات شكل قوسي، تضم أجزاء من العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر. وتُعرف بتربتها الخصبة لوجودها على ضفاف نهري دجلة والفرات.
ينبع نهر دجلة من بحيرة هازر الواقعة شمال جبال طوروس ويتدفق جنوب شرق تركيا مسافة تقارب 400 كيلومتر، مارا بمدن مثل ديار بكر وإيلازيغ، ثم يصل إلى الحدود التركية السورية، ويمتد عليها مسافة 44 كيلومترا.
بعدها يدخل النهر العراق عند نقطة التقاء الحدود الثلاثية بين تركيا وسوريا والعراق، ويكمل مجراه في بلاد الرافدين حتى يلتقي بنهر الفرات في مدينة القرنة، مكوّنين معا شط العرب الذي يمتد مسافة 200 كيلومتر.
ويمتد نهر دجلة على مساحة تبلغ حوالي 375 ألف كيلومتر مربع، ويصب نحو 1014 مترا مكعبا من المياه في الثانية، وقد يبلغ 2779 مترا مكعبا في الثانية، ويتدفق موازيا نهر الفرات ويشكّل معه نظاما نهريا يحد بلاد ما بين النهرين.
النظام المائي
يتدفق نهر دجلة على حافة حوض تصريف متعدد المجاري، وتغذيه 4 روافد قوية، هي الزاب الكبير والصغير والعظيم وديالى، وجميعها تستمد مياهها من ذوبان الثلوج في منطقة كردستان التي تضم مناطق في تركيا وإيران والعراق.
إعلان
ويتميز نهر دجلة بتدفق سريع لروافده، مما يجعله عرضة للفيضانات المفاجئة، وعندما يصل النهر إلى السهل الرسوبي في بلاد الرافدين أعلى مدينة سامراء، يكون أكبر وأسرع وأكثر حمولة بالطمي وأكثر تقلبا من نهر الفرات عند النقطة المقابلة له، وهي مدينة الفلوجة.
وكان متوسط التصريف السنوي لنهر دجلة، قبل بناء السدود الحديثة عليه يُقدّر بـ43 ألفا و800 قدم مكعب (1240 مترا مكعبا) في الثانية، وكانت حمولة الطمي تُقدّر بنحو طن واحد في الثانية.
وتُعد هذه التقديرات ضعف القيم المحسوبة تقريبا مقارنة بنهر الفرات، وفي أوقات الفيضان، يحمل النهران معا ما يصل إلى 3 ملايين طن من المواد المتآكلة من المرتفعات في يوم واحد.

تاريخ النهر
عاشت على ضفاف نهر دجلة الكثير من الحضارات القديمة مثل السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين، وطورت على جنباته زراعات متنوعة، واستفادت منه في النقل والسفر والتجارة، وبنت على طوله العديد من المدن مثل نينوى وبابل وأور والبصرة.
وبعد الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، كان لنهر دجلة دوره المحوري في تطور الدولة الإسلامية، إذ كان شريان حياة مدينة بغداد.
وفي القرن الـ20، شهد نهر دجلة تغييرات كبيرة بسبب مشاريع الري والسدود، والزراعة المكثفة.
ومن أبرز تلك المشاريع بناء سد الموصل الذي يهدف إلى التحكم في تدفق المياه وتوفير الكهرباء ومياه الزراعة.
اقتصاد النهر
نهر دجلة شريان اقتصادي حيوي في العراق، تعتمد عليه الزراعة والري بشكل كبير، خاصة في وسط وجنوب البلاد.
وتوفّر مياهه مصدرا رئيسيا لري محاصيل أساسية مثل القمح والشعير والأرز، إلى جانب بساتين النخيل والخضروات. ويُزرع عرق السوس في منطقة النهر بكثرة، ويُجمع ويُصدر جزء منه.
إعلان
وقد ساهمت مشاريع الري والسدود، مثل سد الكوت وقنوات الغراف والدجيّلة، في تنظيم تدفق المياه وتخزينها من أجل استخدامها في موسم الجفاف.
كما تُستعمل مضخات ومراوح مائية تقليدية ترفع المياه إلى الحقول، لا سيما في المناطق القريبة من الكوت وحول هور الحمار.
التنوع النباتي والحيواني
يحتضن نهر دجلة نظاما بيئيا متنوعا يمثل مجموعة من النباتات المائية والطيور والحيوانات البرية والمائية، وتعيش فيه أنواع فريدة من الطيور، مثل طائر "البابل" العراقي ودُخّل البصرة (أو الهزّاز البصري).
وتُعد هذه المنطقة موطنا مهما للطيور المهاجرة، كما تُشكّل حضانة أساسية للأسماك والكائنات المائية الأخرى، مما يوفّر مقومات استقرار وازدهار المجتمعات المحلية.
في مناطق السهوب، يظهر الغطاء النباتي في فصل الربيع ويختفي مع حلول الصيف، إذ تهيمن نباتات مثل شوكة الجمل والبرسوبس على الأراضي الجافة، أما على ضفاف النهر وفي المستنقعات المحيطة، فتنمو نباتات كثيفة مثل القصب، وقصب المردي العملاق الذي يستخدم منذ القدم في البناء.
إلى جانب (الحور الفراتي) وهو نوع من الأشجار المعمّرة التي تنمو في البيئات الجافة وشبه الجافة، وله أهمية بيئية وثقافية كبيرة في مناطق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
كما ينمو نخيل التمر بكثرة، وكذا ما يعرف بـ"الطرفاء"، وهو نوع من الأشجار ينمو في البيئات الصحراوية والجافة، و"المسكيت"، وهو نوع من الأشجار الشوكية التي تنتمي إلى الفصيلة البقولية، وتنمو غالبا في المناطق الجافة وشبه الجافة، وتشكل هذه النباتات أحزمة نباتية على طول النهر.
ويحتضن نهر دجلة بيئة طبيعية غنية بالحياة البرية، خاصة في المستنقعات والسهول الرطبة الممتدة على ضفافه، وتعيش على ضفافه الذئاب والضباع والنمس، بينما تأوي غابات الطرفاء الكثيفة على جنباته بعض أنواع القط البري الهندي.

وقد شوهدت الأسود قرب دجلة عام 1926، كما توجد الثعالب والغزلان في السهول الممتدة على جنباته، إلى جانب حيوانات أصغر مثل الجرذان الرملية والأرانب البرية والقنافذ والخفافيش وثعالب الماء، إضافة إلى فأر الخلد (بوكستون) الذي يشتهر ببناء جحور من الطين قرب ضفاف النهر.
إعلان
وتشمل الطيور في نهر دجلة البلابل والثراثير والغربان والبوم والصقور، إلى جانب الطيور المهاجرة مثل البجع واللقلق والإوز، التي تمر عبر مجرى النهر وتتكاثر في المستنقعات.
وتنتشر فيه الزواحف والبرمائيات، وخاصة الأفاعي مثل الكوبرا الصغيرة والسحالي والضفادع والسلاحف.
أما الحياة المائية فتتميز بأسماك الشبوط والبربل، إلى جانب القرموط وثعابين الماء الشائكة، وتصل بعض الأسماك البحرية مثل الأنشوجة والجار والدنيس حتى مدينة البصرة.
سدود على دجلة
سد إليسويقع في جنوب شرق تركيا على نهر دجلة، وتم تشغيله عام 2020. يُعد من أكبر السدود في تركيا وتبلغ سعته التخزينية حوالي 10 مليارات و400 مليون متر مكعب. وينتج طاقة كهربائية تصل إلى 1200 ميغاواط.
الهدف من إنشائه هو توليد الكهرباء وتخزين المياه والتحكم في الفيضانات، وأثار الكثير من الجدل، وتقول السلطات العراقية إنه يقلل من كمية المياه التي تصل إلى أراضيها.
سد الموصلهو أكبر سد في العراق ويقع شمال مدينة الموصل، بدأ تشغيله عام 1986 وتبلغ سعته التخزينية 11 مليارا و100 مليون متر مكعب.
ويُنتج طاقة كهربائية تصل إلى 750 ميغاواطا، ورغم أهميته الكبيرة، إلا أن بنيته معرضة للخطر بسبب وقوعه على طبقات من الجبس القابل للذوبان، مما يتطلب صيانته باستمرار.
سد سامراءيقع في محافظة صلاح الدين بالقرب من مدينة سامراء وتم بناؤه عام 1956. لا يستخدم لتخزين المياه أو توليد الكهرباء، بل يهدف إلى تنظيم تدفق مياه نهر دجلة وتحويل الفائض منها إلى بحيرة الثرثار للحد من الفيضانات. وله دور مهم في تنظيم الموارد المائية وسط العراق.
سد الكوتأنشئ عام 1939 في مدينة الكوت بمحافظة واسط. لا يُخزن المياه بشكل كبير ولا يولد الكهرباء، لكن يستفاد منه في رفع المياه وتوزيعها على الأراضي الزراعية في المنطقة. ويعتبر من السدود التنظيمية التي تدعم مشاريع الري.
إعلان
سدة العمارةيقع في مدينة العمارة بمحافظة ميسان. يستخدم لتنظيم تدفق المياه في نهر دجلة، وتوجيهها نحو الأهوار والمزارع القريبة.
كما يساهم في منع دخول المياه المالحة من الجنوب إلى المياه العذبة، ولا يولد كهرباء، لكنه يعد من المنشآت المهمة لدعم البيئة الزراعية في جنوب العراق.
روافد نهر دجلة
يعد نهر باتمان من أول الروافد التي تصب في نهر دجلة داخل الأراضي التركية. وينبع من المرتفعات التركية ويلتقي بدجلة قرب سد إليسو.
يساهم باتمان في تعزيز تدفق المياه في مجرى النهر الأعلى قبل دخوله الأراضي العراقية، ويُستخدم بشكل أساسي في تغذية الخزانات المائية في المنطقة.
نهر الخابورينبع هذا النهر من جنوب شرق تركيا، ويختلف عن نهر الخابور المعروف في سوريا. ويصب في نهر دجلة داخل تركيا، ويُعد من الروافد الثانوية، لكنه يساهم في زيادة منسوب المياه أثناء فترات ذوبان الثلوج والأمطار الموسمية.
نهر الزاب الكبير (الزاب الأعلى)يُعتبر من أهم وأكبر روافد نهر دجلة، إذ ينبع من جبال كردستان في تركيا، ويمر عبر شمال العراق ويصب فيه جنوب مدينة الموصل.
يتميز بغزارته المائية، خاصة في فصل الربيع، وله دور مهم في تغذية الأراضي الزراعية وإمداد السدود بالمياه.
نهر الزاب الصغيرينبع نهر الزاب الصغير من غرب إيران، ويدخل الأراضي العراقية ليصب في دجلة جنوب مدينة كركوك.
رغم حجمه الأصغر مقارنة بالزاب الكبير، إلا أنه من الروافد المهمة في المنطقة الوسطى، ويُستخدم في الري ومشاريع المياه في محافظة كركوك والمناطق المجاورة.
نهر العظيمينبع نهر العظيم من سلسلة جبال زاغروس في إيران، ويجري غربا ويدخل العراق ويصب في نهر دجلة شمال محافظة ديالى، وهو نهر موسمي، ويتأثر بشكل كبير بكميات الأمطار والثلوج، ويُستخدم في ري الأراضي الزراعية وبناء الخزانات المائية مثل سد العظيم.
نهر ديالىنهر ديالى من أبرز روافد دجلة في المنطقة الوسطى من العراق. ينبع من الأراضي الإيرانية، ويعبر محافظة ديالى باتجاه الجنوب ويصب في دجلة جنوب العاصمة بغداد.
إعلان
يشتهر بأهميته الزراعية والبيئية، وبنيت عليه سدود مهمة مثل سد دربندخان وسد حمرين، ما يجعله محوريا في منظومة المياه العراقية.
تحديات بيئية
يواجه نهر دجلة تحديات بيئية حادة ناتجة عن التغيرات المناخية والتلوث، وتشمل هذه التحديات ارتفاع درجات الحرارة وتراجع منسوب المياه بسبب الجفاف وزيادة التصحر.
ويعاني النهر من انخفاض كبير في منسوب المياه، ما يؤثر بشكل مباشر على الزراعة، خصوصا المحاصيل التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه مثل الأرز.
وأدى هذا الجفاف إلى انخفاض تدفق المياه في الأهوار، وهو ما يهدد الحياة البرية والموارد الطبيعية التي تعتمد على هذه المسطحات المائية.
وتقول تقارير أنجزت بهذا الشأن، مثل تلك الخاصة ببحيرة "ساوة"، إن الجفاف ليس ناتجا عن قلة الأمطار فقط، بل أيضا نتيجة لتقليص تدفق الأنهار بسبب السدود وتجاوزات الحصص المائية من الدول المجاورة.
وقد تلوثت مياه النهر بفعل النفايات، وتراكمت الرواسب الرملية في قاعه نتيجة ضعف التيار المائي، مما أدى إلى صعوبة في تدفق المياه نحو الجنوب.
ويشمل التلوث أيضا ما ينتج عن النشاطات الصناعية مثل التعدين وحقول النفط، والزراعية مثل استخدام المبيدات والأسمدة.
نزاعات واتفاقات
شهد حوض نهري دجلة والفرات تصاعدا في النزاعات على المياه منذ ستينيات القرن الـ20، حين بدأت تركيا بناء سدود كبيرة مثل سد كيبان على نهر الفرات عام 1966.
وعلى الرغم من أن تركيا ضمنت تدفقا متوسطا قدره 350 مترا مكعبا في الثانية إلى العراق وسوريا، فإن عملية ملء السد تزامنت مع فترة جفاف.
وتفاقمت الأزمة مع بناء سوريا سد الطبقة، ما أدى إلى أول أزمة مياه رئيسية في عام 1975، وتبادلت الدول الاتهامات بشأن تقليص تدفقات المياه.
ومع بناء سد كركايا عام 1976، زادت تركيا معدل التدفق إلى 500 متر مكعب في الثانية من أجل تأمين تمويل المشروع من البنك الدولي.
إعلان
وفي العقود التالية أصبح مشروع جنوب شرق الأناضول (جي إيه بي) التركي الذي يضم 22 سدا مصدرا رئيسيا للتوتر، خاصة من قبل العراق، الذي اعتبره تهديدا لاستدامة موارده المائية.
وفي عام 2008، أدى الجفاف الشديد في العراق إلى جولة جديدة من التوترات مع تركيا، فقد اشتكت بغداد من انخفاض تدفقات نهر الفرات نتيجة السدود.
ورغم النزاعات المتكررة، سعت الدول الثلاث إلى إبرام اتفاقات لتقسيم المياه وتحسين الإدارة المشتركة، ففي عام 1987، وقّعت تركيا وسوريا أول بروتوكول مائي، تعهدت فيه سوريا بالتعاون الأمني، مقابل ضمان تركيا تدفق 500 متر مكعب في الثانية من نهر الفرات.
واتهمت تركيا لاحقا سوريا بعدم الالتزام وأعلنت أنها غير ملزمة بالاتفاق، وفي عام 1989 اتفقت سوريا والعراق على أن تطلق سوريا 59% من مياه الفرات الواردة من تركيا إلى العراق.
وعقب جفاف عام 2008، وافقت الدول الثلاث على إعادة تفعيل اللجنة الثلاثية المشتركة لإدارة الموارد المائية، وتبع ذلك توقيع مذكرة تفاهم في الثالث من سبتمبر/أيلول 2009 بين العراق وسوريا وتركيا لتطوير محطات مراقبة تدفق المياه وتعزيز التواصل الإقليمي.
وفي 19 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، وافقت تركيا رسميا على زيادة تدفق نهر الفرات إلى ما بين 450 و500 متر مكعب في الثانية لمدة شهر، مقابل تعاون العراق في تصدير النفط والمساعدة الأمنية على الحدود.
0 تعليق