أثارت موافقة الولايات المتحدة على انضمام آلاف المقاتلين الأجانب للجيش السوري جدلًا واسعًا بين السوريين، وذلك بعدما كانت تطالب بطردهم من سوريا، واعترضت بشدة على منح بعضهم رتبًا عسكرية في الجيش السوري الجديد.
لكن يبدو أن ثَمّة تحولًا طرأ على المؤقف الأميركي مؤخرًا، يميل إلى البراغماتية وتغليب لغة المصالح والصفقات الاقتصادية، وأفضى إلى انفتاح كبير على الإدارة السورية الجديدة، بعد أن كشفت الأخيرة عن أن وجهة سوريا الجديدة ستكون نحو المحور الغربي.
وبالتالي جاءت الموافقة على خطة وضعتها وزارة الدفاع السورية تقضي بضم نحو 3500 مقاتل أجنبي، معظمهم من الإيغور القادمين من تركستان الشرقية في الصين ودول أخرى، إلى الفرقة 84 المشكلة حديثًا في الجيش السوري، التي ستضم جنودًا سوريين أيضًا.
وذلك في سياق حلّ يهدف إلى دمج هؤلاء المقاتلين ضمن المجتمع السوري وقبولهم كمواطنين عاديين، بشرط عدم ممارستهم أي تهديد خارج حدود الدولة السورية، وعدم تجاوزهم على المجتمع المدني السوري، والالتزام بالنظام والقانون السوريين، وعدم تشكيل تنظيمات داخل الدولة السورية.
أهم الفصائل
لا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد المقاتلين الأجانب في سوريا، لكن بعض التقارير تشير إلى أن أعدادهم لا تتجاوز خمسة آلاف عنصر على أبعد تقدير، وينحدرون من عدد من الدول، أبرزها تركستان الشرقية (الإيغور)، والشيشان، وبعض الدول العربية ودول الإقليم، وسواها.
إعلان
وبدأ هؤلاء العناصر بالتوافد إلى سوريا منذ تخلّي النظام عن الحدود مع تركيا والعراق، ومع تشكيل فصائل الجيش السوري الحر. وتزايدت أعدادهم مع العسكرة، واشتداد وحشية الحرب التي شنها نظام الأسد على غالبية السوريين، واستقدامه المليشيات الإيرانية ومقاتلي "حزب الله" اللبناني.
وشارك المقاتلون الأجانب بقوة في القتال ضد قوات الأسد والمليشيات الإيرانية والقوات الروسية، وانضم قسم منهم إلى فصائل المعارضة الإسلامية، فيما شكل آخرون منهم فصائل مقاتلة، أبرزها:
حزب التحرير الإسلامي التركستاني، الذي يتألف بشكل أساسي من مقاتلين من الإيغور القادمين من الصين، ويضم قرابة 2500 مقاتل، وهو الفصيل الأكبر ضمن فصائل المقاتلين الأجانب. تنظيم حراس الدين، يضم مقاتلين أردنيين ومغاربة وتونسيين ومصريين وأتراكًا. وكان يضم حوالي 800 مقاتل، لكن "هيئة تحرير الشام" قامت بشن حملات أمنية عديدة ضده، أدت إلى إضعافه، ثم انقسم إلى عدة مجموعات صغيرة. كتيبة المجاهدين الغرباء، تضم مقاتلين من الإيغور، والطاجيك، الأوزبك، ومقاتلين من جنسيات فرنسية وعربية. لا يتجاوز عدد عناصرها 400 عنصر، واندمجت في هيئة تحرير الشام تحت مسمى "لواء عمر بن الخطاب". كتائب أجناد القوقاز، وكانت تحمل اسم "مجاهدو الشيشان"، وتضم نحو 250 مقاتلًا. مهاجرو أهلِ السنة الإيرانيين، ويضم مجموعة من الإيرانيين الأكراد والبلوش والفرس والتركمان السنة، ولا يتجاوز عددهم 150 مقاتلًا.تواجدت كل فصائل المقاتلين الأجانب في الشمال الغربي من سوريا، وخاصة في محافظة إدلب، التي كانت تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" طوال سنوات عديدة. وتمكنت الأخيرة من ضبط إيقاع هذه المجموعات المسلحة، حيث لم تسمح لأي منها بالانطلاق من الأراضي السورية التي كانت تسيطر عليها للقيام بأي عمليات عسكرية خارج الحدود السورية.
إعلان
وبالتالي منعتها من العمل الجهادي العابر للحدود. إضافة إلى أن جميع فصائل المقاتلين الأجانب انضمت إلى "غرفة ردع العدوان"، لذلك لم يتردد الرئيس أحمد الشرع في الإشادة بدورهم في معركة إسقاط نظام الأسد، حين اعتبر أن "جرائم النظام السابق دفعت إلى الاعتماد على المقاتلين الأجانب، وهم يستحقون المكافأة على مساندتهم الشعب السوري"، وأثار كلامه جدلًا واسعًا بين السوريين في حينه.
ثم قامت الإدارة السورية الجديدة بتعيين مجموعة من هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة في الجيش السوري الجديد، وقوبل ذلك بردود فعل دولية رافضة، ووصل الأمر إلى مطالبة بعض الدول الأوروبية بطرد المقاتلين الأجانب من سوريا وتجريدهم من الرتب العسكرية.
ومثّل التخلص منهم أحد أهم الشروط الأميركية. ثم جاءت أحداث الساحل السوري في بداية مارس/ آذار الماضي، والانتهاكات التي رافقتها ضد المدنيين، لتؤجج الأصوات الداخلية والخارجية المطالبة بضرورة طرد المقاتلين الأجانب، بالنظر إلى ورود تقارير حقوقية تتهمهم بارتكاب انتهاكات خلال تلك الأحداث.
حيثيات الاندماج
تدخل مسألة دمج المقاتلين الأجانب في سياق مساعي الإدارة الجديدة لإعادة تشكيل الدولة وفق ما تقتضيه قواعد واقعية أو براغماتية، تجمع بين عقد التفاهمات والتوافقات مع القوى الدولية الفاعلة، وتغليب لغة الحوار والتهدئة الميدانية في الداخل السوري، بغية توفير ممكنات إعادة إنتاج مؤسستي الأمن والجيش، وبما يعيد تشكيل نموذج دولة مركزية جديدة.
وتجادل القيادة السورية الجديدة بأن ضم هؤلاء المقاتلين الأجانب إلى الجيش السوري الجديد سيمنعهم من الانضمام إلى تنظيم القاعدة أو تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية، أو سواهما من التنظيمات المتطرفة.
كما أن بلدانهم التي ينحدرون منها لا تقبل بعودتهم إلا إلى السجون والمحاكم، وفي حال تمكن بعضهم من العودة إلى بلاده فإن عودته كفيلة بخلق مشاكل داخلية في بلده، لذلك فإن الخطر يمكن أن يكون أكبر إذا انضمّ هؤلاء المقاتلون إلى جماعات متطرفة في بلادهم الأصلية، أو حال أقاموا علاقات تنسيقية وتنظيمية مع جماعات في دول أخرى، خاصة دول الجوار الإقليمي، أو في حال إقامتهم علاقات وروابط جديدة مع مقاتلين أو مع جماعات في تلك الدول، لذلك يبدو أن الطرف الأميركي اقتنع بحجج الإدارة السورية، وجرى التوافق على خطة الدمج، التي تلبي مطالبته بحل عقد المقاتلين الأجانب.
إعلان
وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح هنا، هو: هل ستنجح الإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع في حلحلة هذا التحدي الكبير الذي كان يواجهها بعد سقوط نظام الأسد البائد؟
تشير الموافقة الأميركية على هذه الخطوة إلى توفير مظلة توافق دولي، وتحوّل كبير في مقاربة إدارة الملف السوري، يصب في سياق نجاح سياسة الإدارة السورية حيال المقاتلين الأجانب في إقناع القوى الدولية الفاعلة، خاصة أنها لم تخرج عن سياقات دولية أخرى، حيث يتماثل فيها الوضع السوري مع أوضاع سبق أن شهدتها دول أخرى مثل الولايات المتحدة الأميركية نفسها، حيث شكل المقاتلون الأجانب خلال الحرب الأهلية التي خاضتها في الفترة من (1861-1865) نسبة كبيرة من قوات الاتحاد، وصلت إلى حوالي 33%.
كما أن ألوية أجنبية شاركت في الحرب الأهلية الإسبانية، وكانت تضم متطوعين أجانب، شاركوا في دعم الجمهورية الإسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين الماضي، وكان الفيلق الفرنسي الذي تشكل في عام 1830 أبرز الأمثلة على دمج الجنود الأجانب في تشكيل عسكري نظامي.
كما أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يتواجد فيه آلاف المقاتلين الأجانب من أميركيين وفرنسيين وسواهم، وبينهم حاملو رتب عسكرية كثيرة. كما واجهت كل من البوسنة والهرسك، وأفغانستان، والعراق وسواها مشكلة المقاتلين الأجانب، وجرى دمجهم في كل من البوسنة والهرسك بعد حرب (1992- 1999)، وأفغانستان بعد الحرب مع السوفيات.
الجدل السوري
غير أن الخطوة الرامية إلى حلحلة عقدة المقاتلين الأجانب أثارت جدلًا لم ينقطع بين السوريين، بالنظر إلى أن دمجهم في الجيش يطرح تساؤلات ذات أبعاد أمنية واجتماعية وسياسية، لكنه يتعداها ليشمل اعتبارات إنسانية، ويقتضي استقراء تجارب شعوب أخرى للاستفادة منها، وذلك في إطار محاولة الإدارة الجديدة إعادة بناء الدولة السورية بما يمكنها من احتواء تداعيات التركة الثقيلة التي ورثتها من نظام الأسد البائد، دون الدخول في معارك وصراعات مع المجموعات التي ما تزال تحتفظ بسلاحها، وسعيها إلى حصر السلاح بيد الدولة.
إعلان
لكن بعض السوريين يجادلون بأن هذه الخطوة على أهميتها ستفضي إلى دمج مقاتلين في الجيش الجديد يحتفظون بانتماءات وولاءات أخرى، الأمر الذي يستلزم التخلي عنها وعن المرجعيات الأيديولوجية والعقائدية لصالح عقيدة الوطنية السورية، والأمر ينسحب على كل المجموعات المسلحة الأخرى، التي ينبغي تفكيكها بشكل متدرج، وإعادة تأهيلها وفق أسس الجيش السوري الجديد الذي يدين بالولاء المطلق للدولة السورية.
ولعل معظم المقاتلين الأجانب قضوا سنوات طويلة في سوريا دون أن يغادروها، واندمجوا مع المجتمعات الأهلية، لذلك يمكن النظر إلى أوضاعهم بوصفهم مهاجرين يمكنهم المكوث فيها وفق التشريعات والقوانين السورية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق