حاوره زياد خداش:
من منا لم يقرأ لحسن حميد، أحد أهم كتاب المنفى، من منا لم يرتعش وهو يقرأ في روايته "جسر بنات يعقوب"، قال لي صديق مرة إن سحر العنوان أخذه الى هذه الرواية، ومن شدة تعلقه بالإيقاع اللطيف لها والذي كان يتغنى به في كل مكان، عشق الرواية، قرأها عشرات المرّات، مرة في سرير مشفى، ومرة في طابور سيارات أمام حاجز احتلالي، ومرة في طائرة.. يكتب حسن بلاده المحتلة بأفق حداثي حميم يجبرك على البحث في التاريخ، وفي سيرة الألم الفلسطيني الطويل القامة، وهو من مواليد العام 1955 في الجليل الفلسطيني، وتحديداً في "كراد البقارة" قضاء صفد، عاش في مخيمات الشتات بسورية، وتلقى تعليمه في القنيطرة ودمشق، وعمل معلماً فيهما.. هذه دردشة معه:
* كيف عرفت أنك تحب هذا الجحيم الحلو الذي اسمه كتابة؟
- عرفت هذا.. من معرفتي بالمنفى، ومن محبتي للعزلة!
فالعزلة غبش جميل رخي رهيف، مسرّة ذات روائح آسرة، والعزلة انفراد بالخجل العميم، وكتابة ما ترجوه الروح، والمنفى الذي عشته في المخيم، وصُور خجله الكثيرة، من الخجل من الشعر الأشعث، والملح الذي رسبه العرق، ومن الثقوب في القميص، والمشي حافياً، والذهاب إلى مدرسة هي خيمة كبيرة، والجلوس على حجر لم تمح الأيام زواياه الحادة، والسؤال عن قطعة الخيش، التي ربطتها بالحجر، من أخذها، ومن استحوذ عليها في لحظات الغياب، ودمع أمي الذي يسح حين أخبرها بأن قلم الرصاص "خلص" انتهى.
عزلتي كانت منقذي وبيتي، وصوتي، واليد الحانية عليّ، وهي جرأتي التي أخذت بيدي لأكتب ما أهمني وأغمني، هي التي حببتني بالكتابة، وقربتها إلي أكثر مما ينبغي، ولاسيما أنها أخذتني إلى عوالم ما كان لي أن أعرفها من دونها، والأهم هو أن الكتابة في المنفى جعلتني وأحلامي كائناً واحداً، وقد سعدت بهذا الجحيم حين راحت نصوصي تحظى بانتباهات مهمة من أهل النقد والإبداع والفنون والمعرفة.
* الرواية العالمية التي لن تنساها، والتي أبعدتك عن الأصدقاء فترة، وعن نداءات الأم للطعام، وأغضبت رب عملك؟
- الرواية التي أخذت وقتاً مديداً من ساعات قراءتي هي "الحرب والسلام" لتولستوي، لقد قرأتها قراءة تشبه قراءة الفلاح للأرض وأسئلته اللعوب حول خصبها، وما سيزرعه فيها، وكيفية التعامل معها، قرأت هذه الرواية لأنني شعرت أن بينها وبين ما أكتبه عن بلادي نسباً، وعليّ أن أعرف كيف كتب تولستوي عن الحرب، ووقائعها، وعقابيلها، وندوبها، وما رسبته في النفوس، لقد أخذتني هذه الرواية من كل من هم حولي، واستولت على حواسي، شأنها في ذلك شأن السِير الذاتية، والغيرية، للأدباء والأعلام وأهل المحظوظية في الحياة، مثل السيرة الذاتية لزيفايج، والسِير الغيرية التي كتبها عن الآخرين، ومنهم دوستويفسكي.
* كيف ترى مشهد الكتابة الفلسطينية يا حسن؟ ومن يبهرك من روائيينا؟
- الرواية الفلسطينية حدث مضيء وحيوي في مدونة الرواية العربية، لأنها ناددت الروايات الأهم في البلاد العربية، ولا سيما في عواصم الثقافة العربية: القاهرة، ودمشق، وبغداد، وبيروت.
والمشهد الروائي الفلسطيني يشبه إلى حد بعيد، المشاهد الروائية في هذه العواصم الثقافية، ولأن المنفى الفلسطيني كان الأكثر بدواً وحضوراً، فإنه من المدهش، أن يصبح جبرا إبراهيم جبرا، أهم روائي في منفاه بالعراق، وغدا رشاد أبو شاور، ويحيى يخلف، وفاروق وادي من أهم الروائيين في منفاهم ببيروت، وغدا جمال ناجي وإبراهيم نصر الله ومحمود عيسى موسى من أهم الروائيين في منفاهم بالأردن، وكان وليد أبو بكر أهم روائي في منفاه بالكويت، والحال هي كذلك في سورية أيضاً، وهذا أمر مدهش حقاً.
أنا شخصياً، أسرني جبرا إبراهيم جبرا، بثقافته الروائية، وأسلوبه الذي يتصف بالحميمية والسحر الحلال، وفهمه العميق لبناء النص الروائي، ويحزنني الآن كثيراً أنه لم ينل الحظوة والمكانة اللتين تليقان بإبداعه كله، شعراً ، ورواية، وقصة، وسيرة، ونقداً، وترجمة، وفناً.. جبرا إبراهيم جبرا كائن نوراني رحب في إبداعه، وعظيم في تواضعه، وحال كتاب القصة القصيرة الفلسطينية هي كذلك، يكفي أن تذكر أسماء أعلامها، مثل: غسان كنفاني، وسميرة عزام، ومحمود سيف الدين الايراني، وأمين شنار، ومحمود شقير، وخليل السواحري، وتوفيق فياض، ومحمد علي طه، وغريب عسقلاني، ونواف أبو الهيجاء، وأكرم هنية، ورشاد أبو شاور، وعبدالله تايه، ومحمد نصار، ومحمود علي السعيد، وجمال ناجي، وزياد خداش، ومحمود شاهين، ويحيى يخلف، وربعي المدهون، حتى تمتلئ نفسك بالرضا، لأن نصوصهم ناددت أهم نصوص القصة القصيرة في عواصم الإبداع العربي.
* حدثني عن سياق رائعتك "جسر بنات يعقوب التي فازت بجائزة نجيب محفوظ، واعتبرت من أهم 100 رواية عربية؟
- أنا من قرية صغيرة، هي عشرات من البيوت الحجرية، ومئات من البشر، وآلاف من رؤوس الماشية، قرية اسمها "كراد البقارة"، تلوذ بجسر بنات يعقوب المقام فوق نهر الأردن، هي والبيوت، والحقول، والمواشي، والأشجار، والنباتات، والثمار، والدروب، والمغاور، والظلال، والشموع، والغدران، والمخاضات، والحمامات الكبريتية، والمقابر، والأغاني.. مقدسة!
قداستها من قداسة النهر ومواسمه الكثيرة.. مواسم العبادة، ومواسم الطقوس، ومواسم الفيضان، ومواسم الضيوف/ الحجاج الذين يأتون من أجل التعميد والاغتسال، ورمي الذنوب على ضفتي النهر، ثم كنسها بأغنيات الأمهات اللواتي يحملن الثياب والبسط والزلالي ومواعين الطعام النحاسية إلى ضفة النهر لغسلها بقولتهن.. اقبل الشكر يارب، وطهّرنا!
كتبت "جسر بنات يعقوب"، وأنا ألبس ثياب الراهب المتهيب لنورانية المعاني، وأردت لها أن تكون مجداً للطبيعة والتاريخ والعادات والطقوس، والميثولوجيا، والوصف والاستيطان كيما تدلل على أن أبناء القرية هم زرع من زروع الزمن الآبد، وأن أسباب حياة البشر هي ماثلة في الجذور، وأردت لها أن تكون سطراً واحداً محتشداً بالمعنى والمبنى والمغنى، كتبتها برهبوت ولطف ولين لأبين ثنائيات كثيرة، لعل في طالعها: الحق والباطل، والظلم والعدالة.
* السجال الذي حصل بينك وبين الناقد عادل الأسطة حول ضرورة وجود الكاتب في المكان الذي يكتب عنه، هل لك أن تعطينا رأياً حول وجهة نظرك التي لا تشترط الوجود في المكان للكتابة عنه؟
- حدث ذلك بعد أن كتبت رواية "مدينة الله"، وقد قرأها د. عادل مخطوطة لأنه كان محكّماً في جائزة أدبية، لم يزعجني رأيه، بل قهرني، ذلك لأنه خصّ وحدد وأرشد إلى من لهم القدرة على الكتابة عن المكان لأنهم يعرفونه ويعيشون فيه، وهذا صواب، ولكنه ليس صواباً مطلقاً، "شيللر" الألماني، خدين "غوته"، لم يكتب شيئاً عن المكان الألماني، والعم "شكسبير" في الكثير من أعماله لم يكتب عن المكان الإنكليزي، و"يوسا" البيروفي كتب عن قنصل إنكليزي في الكونغو، وغائب طعمة فرمان كتب "النخلة والجيران"، وهو في منفاه الروسي، فكيف لي، وأنا ابن فلسطين المحتلة، وأعيش في المنفى، وروحي معلقة ببلادي، ولا قيمة لي إلا بها، والمكان هو الشيء الوحيد الذي افتكّه الإسرائيليون منّي بالقوة، لا أكتب عن القدس التي كتب عنها: غوغول، وإيفان بونين، ومالارميه، وأنا أعرفها حيّا حيّا في التاريخ والحكايات والمرويات، وما كتبه عنها الحجاج، طلاب المغفرة، وما صوّره من بيوتها ومعابدها وأشجارها وأسواقها الرسامون، وما قاله عنها جبرا، ونبيل خوري، ومحمود شقير، والرحالة العرب والأجانب، مثل ياقوت الحموي، وناصر خسرو الفارسي، في فترات زمنية مختلفة، السجال كان لسبب هو أن الدكتور الأسطة الذي أحترمه وأحبّه حقاً، فهو مثقف وأكاديمي وأديب رائع، لم يلتفت إلى جوّانية الكتابة التي كتبتها عن القدس، لا في الموضوع الذي تبنيته، ولا التبصر بالروح الفنية التي اشتققتها لتحمل المعاني، ولا عن الثنائيات التي أظهرها وأجلاها الاحتلال الإسرائيلي، ولا التلبث عند الاختلاف إلى حد التناقض ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول الأرض، والتاريخ، والانتماء، والوطن.. بل حول الهواء ما إذا كان خالياً من روائح البارود أم لا.
لقد طلب مني د. الاسطة، وهذا سبب قهري، أن أكتب عن الاستبداد والاستعباد، والديكتاتورية في سورية حيث أعيش، وهو بذلك يهديني بهدوء ومحبة ولطف إلى طريق قصير جداً، كي أدخل إلى السجن! وهل مثل هذا يقال لجبرا في العراق، أو يقال لأي كاتب فلسطيني في أي بلد عربي، ولماذا لم يقل نقاد الأدب في الهند لسلمان رشدي الذي يعيش في بلاد الإنكليز: اكتب عن الملاهي، وبيوت المتعة، وما يحدث في محطات القطارات حيث تعيش، ولا تكتب عن "أطفال منتصف الليل" في الهند، والحال هي كذلك حين نتحدث عن همنغواي الذي عاش في باريس، وماركيز الذي عاش في مدريد، ويوسا الذي عاش في برشلونة، أو زيفايج الذي عاش في منفاه في سويسرا.. "الله يسامحك، يا دكتور الاسطة".. ألأنني يتيم، وابن شهيد..عنفتني؟
لقد قرأت، أخي زياد.. طوال عشرين سنة معظم ما وصل إلى يديّ من كتابات وصور حول القدس، وأحضرت خرائط طبوغرافية للأمكنة في القدس من الكنائس، ولاسيما ما يخص المعابد، والتواريخ، والعقبات (الأحياء)، والحارات، والأسواق، والمطاعم، والمقاهي، كي لا أقع في غلط مكاني واحد.. ومع ذلك هجا الدكتور عادل فعلي، أظن أن "مدينة الله" هي أهم ما كتبته.
* أنت تهبط في غزة.. الآن، ما الذي ستفعله؟!
- أووه، سيكون هبوطاً من أجل بكاء وحشي لا تعرفه سوى الغابات والرياح من جهة، وهبوطاً من أجل معرفة ممّ تتشكل منه الأفعال الأسطورية لأهلي في غزة الذين أنسنوا البحر، وشقوا الدروب فيه لتكون علامات راشدة، والذين زرعوا الورد فكان تعريفاً بهم في بلاد الغرب من جهة أخرى، يا إلهي كم سأبكي، وكم سأفتخر.. يا أيها الزياد الحبيب!
0 تعليق