عاجل

"الخروبة".. فلسطين في سردية رشيد الحفيد عن رشيد الجد! - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

كتبت بديعة زيدان:

 

يمكن توصيف "الخروبة"، الرواية الصادرة عن "الآن ناشرون وموزعون" في العاصمة الأردنية عمّان، مؤخراً، باعتبارها سيرة غيرية أيضاً، حيث أن كاتبها، رشيد عبد الرحمن النجاب، يسرد حكايات من سيرة ومسيرة جدّه الذي ورّثه اسمه، موثقاً لتلك الحقبة من السطوة العثمانية على فلسطين، وللأمكنة التي مرّ بها الجد، حيث حظي المكان بحضور طاغٍ في الرواية، علاوة على عدم القفز عن العديد من الشخصيات التاريخية المحورية، التي سارت جنباً إلى جنب مع أخرى واقعية من العامة، أو متخيّلة، في حين شكل سرد أحداث بعينها قيمة مضافة.
الحدث المحوري في "الخروبة" كان تجنيد الابن الوحيد للعائلة "رشيد" في الجيش العثماني قسراً، وانعكاسات ذلك الحدث المفصلي وتحولاته على المُجنّد وعائلته المكونة من والديه وشقيقتين، فـ"رغم كون المهام التي أنجزت في دار عبد الرحمن في ذلك اليوم عادية متكررة، فإن اليوم مضى بطيئاً كئيباً مثقلاً بالقلق والترقب، وقد زاد من ذلك ندرة الأخبار المتوافرة عن تحرك فرق التجنيد، إضافة إلى حرّ تموز، فالقرية التي تختبئ بين الأشجار خلف خربة صِيّا ترقد بمنأى عن الطرق التي تربط المدن والبلدات بعضها ببعض على بدائيتها".
و"خربة صِيّا"، هي إحدى خرب قرية "جِيبيا" قرب رام الله، وهي قرية "رشيد" الكاتب، ومن قبله "رشيد" الجد، الشخصية المحورية في "الخروبة"، التي هي هنا، "خروبة النحلة" القديمة التي “استقرَّت بين أغصانها نحلة وجعلت لها فيها مقرًّاً"، وباتت مع الوقت معلماً مشهوراً، ما أغاظ الاحتلال، الذي عمد إلى اغتيالها، بعد أن شكلت مقرّاً ومقاماً، منها تم اقتياد "رشيد" للجنديّة، "وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، والد رشيد، جاؤوا إلى القرية مُعزّين، باتت الخرّوبة وجهتهم"، هي التي تحولت إلى صومعة الوالدة ومعبدها وموئلها اليومي، باعتبارها المرصد ومقر الانتظار، حيث تعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة، تحت ظلّها.
"تدور أحاديث تناقلتها الألسنة في بيرزيت، وكوبر، وبرهام، وأم صفاة، عن خيالة يجوبون المدن والقرى بحثاً عن رجال يسوقونهم للتجنيد في جيش السلطان العثماني، وصلت هذه الأخبار على لسان المتنقلين في البلاد لأغراض أهداف متعددة، ولم تكن لتنقل صافية كما وردت من مصادرها الأصلية التي لا يمكن لأحد تحديدها بدقة، بل اجتهد كل ذي موهبة في مبالغات، أدّت إلى تبهيرها وتشكيلها في عدد لا متناهٍ من القصص، فيها قليل من الصحة وكثير من الخيال، فمن قائل عن بلاد قصيّة ينقلونهم إليها، إلى مجتهد متفائل بتجنيد كلّ في منطقته، إلى قصص عن شباب فرّوا في أثناء تنقلهم، فمنهم من أدركتهم رصاصات الحرس، ومنهم من ابتلعته الصحراء، أو أتت عليه وحوش البر".
وهنا تتحدث الرواية، عن ظاهرة "الفراري"، أو الفارين من التجنيد العثماني الإلزامي التعسفي، وما رافقه من اضطهاد بحق الفلسطينيين وعموم أهل بلاد الشام وغيرها من الجغرافيات التي كانت تتبع السلطنة الآخذة بالانهيار، والتي كانت تصفهم بـ"المتهربين" أو "العاصين" أو "المنشقين" عمّن كانوا يجوبون القرى لتجميع الشبّان ما بين 15 و25 عاماً للتجنيد الإجباري في الجيش العثماني بأمر من السلطان.
وشكلت ظاهرة "الفراري" حالة من التمرد العربي على "وفاء لاستحقاق غير عادل، لدولة لم تتذكر رعاياها عندما استحق تعليمهم، ولا أمّنت لهم رعاية صحيّة، ولا ظروفاً معيشية كريمة"، ولكنها تذكرت أن لها "رعايا" عند جني الضرائب، و"عند الحاجة إلى شباب تزج بهم في أتون الحرب، تلك التي لم يعلموا من أطرافها، ولا أين وكيف اندلعت؟ ولماذا؟.. هي حرب غريبة في بلاد غريبة، ليس لهم فيها ناقة ولا جمل".
الرواية التي كشف صاحبها عن سر لقب العائلة، فـ"النجّاب" يعني "حامل الكتاب"، وكان ذلك لقب جدّ الجدّ، جاءت على ذكر الظاهر عمر الزيداني، وسليمان النجاب، وغيرهما، كما كان توظيفها للمصطلحات العامية موفقاً، كـ"الجودلة" التي هي "الجنبية" التي تشبه الفرشة لكنها أرق سمكاً وأقل مساحة وتستخدم للجلوس، أو "هيش"، وهو صوت موجه للدابة القصد منها حضها على الوقوف، و"الماسية"، وهو مصطلح يشير إلى الموسم الذي يشهد ناتجاً وفيراً من محصول الزيتون، وعكسه "الشلتونة"، وغيرها.
وكان تطعيم السرد في "الخروبة" بالأمثلة الشعبية، موظفاً بشكل محكم غير مقحم، من قبيل: "إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني"، و"مثل خبز الشعير مأكول مذموم"، و"من سَرى باع واشترى"، و"تبغدد وتدمشق"، أي تمتع برغد العيش في دمشق أو بغداد، أو تمثّل بهما، وغيرها.
عاد بنا رشيد عبد الرحمن النجّاب الحفيد، وعبر حكاية رشيد عبد الرحمن النجّاب الجدّ، إلى زمن عتيق، عبر آلة سردية ذات طابع خاص، ذهبت بنا في رحلة شيّقة بعيدة عن أي ملل، داخل القرى والبلدات المحيطة برام الله، وخاصة جيبيا، بخربها ومقاماتها ومواقعها الأثرية وطقوس سكانها، إلى القدس، مروراً بطولكرم (طول كرم)، إلى "سمخ" قرب طبرية، فدرعا، ودمشق التي مكثنا رفقة رشيد الجد فيها لبعض الوقت، حيث كان موقع خدمته في معسكر قبيل "صدنايا"، فبعلبك اللبنانية، قبل أن نذهب وإياه في مهمة إلى القدس، لم يتوقع أن تكون موقعه الأخير، قبل العودة، حيث كان "الماء الساخن، والانفكاك من البدلة الرسمية التي ارتداها قبل يومين أو أكثر، ثم هذا العشاء الشهي على بساطته، كل ذلك أعاد له مذاق العيش بين الأهل في المكان الأحب إلى قلبه، إنها جيبيا".
سقطت السلطنة وجيشها وبقي رشيد وحضن أمّه، وبقي البيت، وبقيت البلدة، وفلسطين، في توثيق سردي لواقع انفكاك العلاقة بين الفلسطينيين والحكم أو الاحتلال العثماني المندثر، ما يحمل دلالات على البقاء الدائم للفلسطينيين، سكان البلاد الأصلانيين على أرضهم، رغم كل الاحتلالات وطغيانها وجرائمها، خاصة في زمن الإبادة غير المسبوقة، والضم، والتهويد، والاغتيالات اليومية لكل من وما هو فلسطيني.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق