كيف أصبح التقمص لعنة تطارد أعظم ممثلي العصر؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

يعتبر التقمص أحد أخطر الفنون في عالم التمثيل، حيث يدفع بعض الممثلين ثمنا باهظا من صحتهم النفسية والجسدية، فعندما ينغمس الفنان كليا في شخصيته لدرجة العيش بها، تصبح الشخصية شبحا يطارده.

ولعب الممثل دانيال داي لويس، أدوارا معقدة غيرت مفهوم التقمص في الأداء التمثيلي وجعلته علما قائما بذاته، لكنه في الوقت نفسه دفع ثمنا شخصيا باهظا جعله يقرر اعتزال التمثيل نهائيا بعد مسيرة حافلة بالإنجازات والمعاناة.

وبحسب ما جاء في حلقة (2025/6/17) من برنامج "عن السينما" فإن قصة دانيال داي لويس المعقدة بدأت من طفولة مؤلمة شكلت شخصيته الفنية بطريقة جذرية، عندما تعرض في صغره للتنمر بسبب أصوله الأيرلندية واليهودية، مما دفعه لتطوير آلية دفاع نفسية غيرت مجرى حياته تماما.

ولجأ دانيال إلى التمثيل كوسيلة للهروب من هويته الحقيقية، فأخفى جذوره وتظاهر بأنه إنجليزي، وأتقن اللكنة الإنجليزية وتعلم تقليد حركات الأطفال الإنجليز بدقة مذهلة.

وقد منحته هذه التجربة المبكرة قدرة خارقة على التقمص، لكنها في الوقت نفسه زرعت بداخله بذور مشكلة نفسية عميقة ستطارده طوال مسيرته المهنية.

ولم يكن يعلم وقتها أن هذه المهارة في التخفي والتقمص ستجعله يرى أشباحا في كل مكان، وأن كل دور سيمثله سيتحول إلى كابوس يحتاج سنوات للتخلص منه.

أما الحادثة التي غيرت نظرته للتمثيل إلى الأبد، فقد وقعت عندما كان يؤدي دور هاملت على المسرح، وفي المشهد الذي كان من المفترض أن يرى فيه شبح أبيه في المسرحية، فوجئ برؤية شبح أبيه الحقيقي سيسل داي لويس.

هذه التجربة المرعبة جعلته يدرك أن قدرته على التقمص تتجاوز الحدود الطبيعية، وأن عقله لا يستطيع التمييز بين الواقع والخيال عندما ينغمس في الأدوار بعمق.

تقمص مدمر

وطور داي لويس منهجا فريدا في التمثيل، لكن بطريقة "متطرفة" لم يسبقه إليها أحد في تاريخ السينما.

هذا المنهج لا يقتصر على حفظ النص والتمرن على الحركات، بل يتطلب العيش الكامل داخل شخصية الدور لأشهر أو حتى سنوات، مما يعني أن دانيال يختفي تماما ويحل محله الشخص الذي يمثله.

إعلان

هذا النهج "المتطرف" في التقمص جعله ينتج أداءات استثنائية لا تُضاهى، لكنه في الوقت نفسه تسبب في معاناة نفسية وجسدية هائلة.

وبعد انتهاء كل دور، يحتاج داي لويس لسنوات طويلة للتعافي من "شبح الشخصية" الذي يستمر في السيطرة عليه حتى بعد انتهاء التصوير.

هذه الأشباح لا تتركه بسهولة، بل تطارده في أحلامه وفي حياته اليومية، مما يجعله يعيش في حالة من الصراع المستمر بين هويته الحقيقية والشخصيات التي يؤديها.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن دانيال لا يكتفي بالتقمص أثناء التصوير، بل يعيش الدور بكل تفاصيله حتى في الحياة العادية.

ويتناول الطعام الذي كانت تتناوله الشخصية، يرتدي ملابسها، يتحدث بلكنتها، ويتبنى عاداتها وطقوسها اليومية، هذا الانغماس الكامل يجعل أداءه صادقا إلى درجة مذهلة، لكنه يدفع ثمنا شخصيا باهظا مقابل هذا الكمال الفني.

رحلة عبر الأدوار

بدأت مسيرة داي لويس السينمائية الحقيقية مع فيلم ""قدمي الشمال" (My Left Foot) عام 1989، حيث أدى دور كريستي براون، الكاتب والرسام الأيرلندي الذي وُلد بشلل دماغي ولم يكن قادرا على تحريك أي جزء من جسده سوى قدمه اليسرى.

ولم يكن هذا الدور مجرد تحدٍ تمثيلي، بل تجربة إنسانية عميقة غيرت حياة دانيال إلى الأبد.

وللتحضير لهذا الدور، قضى داي لويس أشهرا في قراءة أعمال كريستي والتعرف على أصدقائه، لكن الأهم من ذلك أنه قرر عدم ترك الكرسي المتحرك طوال فترة التصوير.

وأجبر هذا القرار فريق العمل على التعامل معه كشخص معاق حقيقي، فكانوا يطعمونه ويسقونه ويصاحبونه حتى إلى الحمام.

كما تدرب لأشهر طويلة حتى يتمكن من القيام بكل شيء بقدمه اليسرى فقط، ولم يكن يريد اللجوء للمحاكاة أو الخدع السينمائية.

لكن النتيجة كانت مدمرة جسديا ونفسيا، بسبب وضعية الانحناء التي التزم بها لأسابيع، ما أدى إلى كسر ضلعين من أضلاعه.

غير أن الأهم من الألم الجسدي كان اكتشافه العميق لطبيعة المعاناة الإنسانية، وتوصل إلى أن ما يشعر به كريستي ليس الحزن أو اليأس، بل الغضب، غضب من الطريقة التي يُفهم بها ويُساء فهمه، غضب من تعامل الآخرين معه بالشفقة بدلا من التقدير.

هذا الأداء المذهل جعله يفوز بأوسكار أفضل ممثل وحوله من ممثل مغمور إلى نجم عالمي، لكنه احتاج لـ3 سنوات للتعافي من شبح كريستي الذي استمر في مطاردته.

وكان يقول: "أحتاج إلى بعض الوقت كي أستطيع طرد الأرواح الشريرة، وأشعر بالتردد في التخلي عن شيء كان جزءا مهما في حياتي، ويسيطر علي شعور هائل بالحزن".

العودة إلى البراري

وبعد سنوات من التعافي، عاد داي لويس بشخصية مختلفة تماما في فيلم "آخر الموهيكان" (The Last of the Mohicans) عام 1992، حيث أدى دور هوكاي، المحارب من القرن الـ17 في الملحمة عن آخر قبيلة للسكان الأصليين في أميركا أثناء الحرب الهندية الفرنسية.

وتطلب هذا الدور تحولا جسديا وذهنيا كاملا من الرجل المعاق إلى المحارب القوي.

والتزم الممثل مع مدرب لياقة بدنية 5 مرات في الأسبوع لمدة 6 أشهر ليصبح جسده مناسبا للدور، ثم عاش شهرا كاملا في غابات ولاية كارولاينا الشمالية مع بعض الخبراء ليتقن حياة السكان الأصليين.

إعلان

وتعلم اصطياد الحيوانات وسلخها، وبناء الزوارق، وإطلاق النار، وتلقى تدريبا خاصا على يد عقيد بالجيش الأميركي لتطوير مهاراته في الرماية والقتال بالأيدي.

ولأن السلاح جزء لا يتجزأ من شخصية هوكاي، اصطحب داي لويس البندقية قديمة الطراز إلى كل مكان، حتى إلى حفلات عيد الميلاد، مما خلق مواقف محرجة حين كان يقف حاملا بندقية عتيقة بينما الجميع مستمتعون بالحفل مرتدين أجمل ما عندهم.

وبعد انتهاء التصوير، عانى من الهلوسة وأصبح يخاف من الأماكن المغلقة، واحتاج لشهور طويلة للتخلص من شبح المحارب الذي استمر في السيطرة عليه.

ومرت أكثر من 7 سنوات على آخر أدوار داي لويس، والسؤال الذي يطرحه عشاق السينما في كل مكان: هل سيعود يوما من اعتزاله؟ أم أن الثمن النفسي والجسدي للتقمص أصبح أكثر مما يستطيع تحمله؟

الصادق البديري

17/6/2025

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق