جانب من الخراب الذي خلفته الآلة العسكرية الإسرائيلية على مشارف مخيم جنين (الفرنسية)
جانب من الخراب الذي خلفته الآلة العسكرية الإسرائيلية على مشارف مخيم جنين (الفرنسية)
14/4/2025-|آخر تحديث: 14/4/202506:30 م (توقيت مكة)
استغلت إسرائيل انشغال العالم بحرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة لتعيد تشكيل معالم الضفة الغربية المحتلة مستخدمة جيشها وآلتها الحربية وجرافاتها ومستوطنيها.
فبعد يومين من سريان وقف إطلاق النار في غزة يوم 21 يناير/كانون الثاني 2025 كثف الجيش الإسرائيلي عملياته في الضفة وخصوصا مناطقها الشمالية مستخدما لأول مرة الدبابات والطائرات. وقامت جرافاته بإزالة أحياء بأكملها مجبرة ما لا يقل عن 40 ألف شخص على مغادرة منازلهم.
علما بأن إسرائيل تتحكم بالضفة منذ احتلالها عام 1967 بواسطة حواجز التفتيش والاعتقالات وهدم المنازل والاستيلاء على الأراضي، وتقيد حركة 3.3 ملايين فلسطيني مقابل منح حرية الحركة لحوالي 700 ألف إسرائيلي يقيمون في مستوطنات غير قانونية على أراض فلسطينية.
لماذا تستهدَف جنين وطولكرم؟
يركز الهجوم العسكري المتواصل الذي يحمل اسم "عملية الجدار الحديدي" على محافظتي جنين وطولكرم شمال الضفة. علما بأن هاتين المحافظتين تضمان عددا أقل من المستوطنات مقارنة بباقي محافظات الضفة وهي معروفة منذ فترة طويلة بأنها مراكز لأنشطة المقاومة مما أعاق عمليات ضمها.
ورداً على ذلك، نفذت إسرائيل غارات منهجية وعمليات هدم واسعة النطاق في هذه المناطق، بهدف قمع المقاومة وفرض السيطرة بالكامل كجزء من إستراتيجية أوسع لفرض هيمنتها على الضفة الغربية بأكملها.
وتم في هذا السياق استهداف مخيمات اللاجئين. فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهد مخيم طولكرم، وهو ثاني أكبر مخيم بالضفة، تدمير 205 منشآت، بما في ذلك منازل ومبان تجارية وبنية تحتية زراعية. وتلاه تدمير 174 منشأة في مخيم نور شمس و144 في مخيم جنين. وبلغ التدمير ذروته في جنين خلال أغسطس/آب 2024، حيث تم هدم 37 منشأة في شهر واحد.
تقول منظمة "السلام الآن" غير الحكومية الإسرائيلية إن 48 بؤرة استيطانية جديدة أنشأت عام 2024، وهو رقم قياسي في الضفة. علما بأن توسع المستوطنات كان يسير بوتائر سريعة قبل الحرب، حيث تم عام 2023 إنشاء 31 بؤرة استيطانية جديدة، 21 منها ظهرت خلال 6 أشهر فقط بين فبراير/شباط 2023 ويوليو/تموز 2023 أي قبل وقت طويل من 7 أكتوبر/تشرين الأول.
عنف المستوطنين سلاح غير رسمي للإقصاء
أصبحت اعتداءات المستوطنين حدثًا يوميًا في الضفة خاصة المناطق الريفية القريبة من البؤر الاستيطانية. ويقوم المستوطنون بعرقلة الطرق المؤدية إلى المجتمعات الفلسطينية، مما يعيق الوصول إلى الخدمات الأساسية وسبل العيش. وفي بعض الحالات، كانوا يتلفون مصادر المياه مما أدى إلى قطع الموارد الحيوية عن مجتمعات الرعي الفلسطينية.
مزارع المستوطنين
يكشف تقريران جديدان -أصدرتهما كل من منظمة "يش دين" وأطباء لحقوق الإنسان وحركة "السلام الآن" و"كيريم نافوت" نهاية مارس/آذار 2025- عن عمق ضلوع الحكومة الإسرائيلية في تمويل المزارع الاستيطانية وتقديم الدعم للأعمال العنيفة والإرهابية التي تنفذها عصابات المستوطنين.
ويكشف تقرير حركة "السلام الآن " عن مدى عمق التدخل الحكومي في إنشاء المزارع الاستيطانية، بدءا من عقود تخصيص الأراضي للرعي التي تمنحها إدارة الاستيطان، ووصولا إلى الميزانيات المتدفقة من مختلف الوزارات الحكومية.
وتقول حاجيت عوفران -التي كتبت التقرير بالاشتراك مع درور اتكيس من منظمة "كيريم نافوت"- إن "الضفة اليوم لا تبدو كما كانت قبل 5 سنوات. كنا نرى الفلسطينيين يمشون مع قطعانهم في مناطق واسعة من الضفة. أما اليوم، فلا نرى سوى رعاة يهودا".
وبالمجمل فقد سيطر المستوطنون عبر المزارع الرعوية حتى الآن -بحسب تقرير "السلام الآن" الذي تلقت الجزيرة نت نسخة منه- على مساحة قدرها 786 ألف دونم، أي ما يعادل 14% من أراضي الضفة.

وفي مؤشر يعكس التناغم ما بين عصابات المستوطنين وجيش الاحتلال، ركز تقرير "يش دين" وأطباء لحقوق الإنسان خلال الحرب على جبال الخليل، وتحديدا بالمنطقة الواقعة شرق الطريق الاستيطاني "ألون" حيث تبلغ مساحة هذه المنطقة نحو 100 ألف دونم، وكانت تسكنها حتى 7 قرى فلسطينية يبلغ عدد سكانها نحو ألف نسمة. وقد تسببت 11 مزرعة استيطانية رعوية أنشئت بالمنطقة خلال الحرب في تفكيك هذه القرى الصغيرة وإجبار السكان الفلسطينيين على مغادرة منازلهم تحت تهديد السلاح.
مليشيات مسلحة للمستوطنين مع دورياتها على الطرقات الرئيسية بالضفة (الجزيرة)
مليشيات مسلحة للمستوطنين مع دورياتها على الطرقات الرئيسية بالضفة (الجزيرة)
وخلص للقول إن المستوطنين "لا يتصرفون من تلقاء أنفسهم. والحكومة الإسرائيلية وجنود جيش الاحتلال شركاء في الهجمات على الفلسطينيين، وأيضا في خطط التهجير ووضع اليد على أكبر مساحة من أراضي الضفة، تمهيدا لفرض السيادة الإسرائيلية عليها".
وقد بدأت عملية تهجير التجمعات السكنية الرعوية في مسافر يطا والأغوار ومنطقة أريحا، ويعلق كلير بالقول "فور اندلاع الحرب، ففي الشهرين اللذين سبقا السابع من أكتوبر، كانت هناك زيادة كبيرة في عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، وكانوا يأتون يوميا، يحلقون بطائرات مسيرة فوق الأغنام، وينفذون هجمات مسلحة، وبعضهم ملثمون أو بالزي العسكري".
وبين يومي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و31 ديسمبر/كانون الأول 2024، وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية تهجير 1762 فلسطينيًا، من بينهم 856 طفلًا، ومعظمهم من التجمعات البدوية والرعوية في شتّى أنحاء الضفة، وذلك بفعل اعتداءات المستوطنين.

وتحدث سكان قرية خربة زنوتة جنوب الضفة عن تدمير منازلهم وإتلاف مصادر المياه، مما أجبرهم على الفرار. وفي نابلس، تم تهجير 8 عائلات (51 شخصًا) قسريًا تحت تهديد السلاح.
وخلص تقرير صادر عن منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "يش دين" -بعد تحليل 1664 تحقيقًا للشرطة حول عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين بين عامي 2005 و2023- إلى ما يلي:
94 %من القضايا تم إغلاقها دون توجيه اتهامات. %3 فقط أسفرت عن إدانات. ما لا يقل عن 80% من الحالات، تم إغلاق التحقيق بشأنها بسبب الزعم بعدم القدرة على تحديد المشتبه بهم أو جمع أدلة كافية.وكشفت الدراسة انعدام الثقة العميق بتنفيذ القانون الإسرائيلي بين الفلسطينيين، حيث اختار 58% من الضحايا عام 2023 عدم إبلاغ الشرطة عن الجرائم المرتكبة بحقهم. ووصفت منظمة "بتسيلم" -وهي مجموعة إسرائيلية لحقوق الإنسان- عنف المستوطنين بأنه "أداة غير رسمية لإسرائيل" لطرد الفلسطينيين، حيث يساهم غياب المساءلة في صنع ثقافة الإفلات من العقاب.
الاستيلاء غير القانوني على أراضي الفلسطينيين
أظهر تقرير صدر في يونيو/حزيران 2024 عن منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "هموكيد" أن إسرائيل كثفت بشكل سريع سيطرتها على الضفة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، متجهة نحو الضم الكامل.
ويقود هذا الجهد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي تم تعيينه مؤخرًا في منصب وزاري جديد بوزارة الدفاع، مما منحه صلاحيات واسعة على الشؤون المدنية في الضفة.
وسموتريتش مستوطن يعيش على أرض فلسطينية خارج المستوطنة غير القانونية كدوميم، وهو يرأس أيضًا إدارة الاستيطان، وهي قسم داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية المسؤول عن الإشراف على إنشاء وتوسيع المستوطنات.
وعام 2024، صنفت السلطات الإسرائيلية 24 ألفا و700 دونم (6100 فدان أو 2470 هكتارا) على أنها "أراضي دولة" متجاوزة الـ23 ألف دونم التي تم ضمها بين عامي 2000 و2023. وبالإضافة إلى ذلك، تم الاعتراف بـ68 بؤرة استيطانية غير قانونية من قبل إسرائيل وتزويدها بالبنية التحتية، مما يعمق السيطرة الإسرائيلية.
وتعمل إدارة سموتريتش مع المستوطنين للاستيلاء على الأراضي، وهدم المنازل الفلسطينية، والاعتراف بالبؤر الاستيطانية غير القانونية، مما يعزز السيطرة الاستيطانية بشكل أكبر.

كما اعتدى المستوطنون في الضفة على نحو 21 ألفا و451 شجرة، منها نحو 16 ألفا و875 شجرة زيتون، وذلك باقتلاعها أو إحراقها أو إتلافها.
وتضمنت الموازنة العامة لإسرائيل عن عام 2025 -والتي أقرت نهاية مارس/آذار الماضي في الكنيست- بندا صغيرا، حيث ارتفعت ميزانية وزارة الاستيطان التي ترأسها أوريت ستروك، عضو حزب "الصهيونية الدينية" بزعامة سموتريتش، من 123 مليون شيكل (33.2 مليون دولار) إلى 391 مليون شيكل (105.6 مليون دولار) أي بزيادة قدرها 320%.
وحصلت المزارع الاستيطانية الرعوية على حزمة جديدة من المساعدات المالية، بتحويل 75 مليون شيكل (20.2 مليون دولار) لتمويل شراء الأسلحة "المكونات الأمنية لنقاط الاستيطان" خلال عام 2025، حسب ما أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت".
شمال الضفة الغربية
في 12 مارس/آذار الماضي، كشف تحليل لصور الأقمار الصناعية عن دمار واسع النطاق وعمليات تجريف قامت بها القوات الإسرائيلية في طولكرم وجنين، وأظهرت ما يلي:
تدمير 12.5 كيلومترا (7.8 أميال) من الطرق في طولكرم ومخيم نور شمس. هدم 17.5 كيلومترا (10.9 أميال) من شبكات الطرق في مخيم جنين. أضرار واسعة النطاق للمباني في المخيمات الثلاثة.يُشار إلى أنه منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أدى تجريف ما لا يقل عن 523 مبنى -كانت تؤوي العديد من العائلات- إلى تهجير ما يقرب من 3 آلاف شخص من منازلهم، بما في ذلك:
مخيم طولكرم: تهجير 1070 شخصًا بعد هدم 205 مبان. مخيم نور شمس: تهجير 965 شخصًا بعد تدمير 174 هيكلًا. مخيم جنين: تهجير 960 شخصًا بعد هدم 144 هيكلًا.تاليا صور الأقمار الصناعية:
تفيد معلومات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن عمليات النزوح تضاعفت خلال الأشهر الأخيرة، حيث تسببت آخر عملية عسكرية في أكبر موجة نزوح فلسطيني بالضفة منذ عام 1967، مما أجبر أكثر من 40 ألف شخص على الفرار من منازلهم. وتشير هذه الأرقام إلى إستراتيجية تفكيك المجتمعات الفلسطينية، حيث يشكل وجودهم بالضفة تحدياً ديموغرافياً لإسرائيل.
وتسلط الصور والتقارير الجديدة الضوء على حجم الدمار في جنين وطولكرم ونور شمس، حيث تحولت أحياء كاملة إلى أنقاض، وأجبر الآلاف على الفرار، مما عرض النسيج الاجتماعي الفلسطيني لتدمير منهجي.
وفي جنين، تم التعرف على نمط فريد لم يُلاحظ في طولكرم ومخيمها. فقد أنشأ الجيش الإسرائيلي 14 حاجزاً ترابياً يحيط بالمخيم، مع تمركز مركبات عسكرية بالقرب من بعض هذه الحواجز.
بالإضافة إلى ذلك، فرض الجيش الإسرائيلي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قيوداً شديدة على حركة الفلسطينيين مستخدما 793 نقطة تفتيش بحلول (نوفمبر/تشرين الأول 2024) يقع حوالي 60% منها بالخليل ونابلس ورام الله، وهذا ما يعيق الوصول الطبي ويعطل التجارة ويعزل المجتمعات.
دعوات علنية لضم الأراضي والتهجير
ورغم التوسع السريع للمستوطنات، تواجه إسرائيل تحدياً ديموغرافياً رئيسياً حيث لا يزال معدل الولادات بين الفلسطينيين بالضفة والقطاع وداخل إسرائيل أعلى من بين الإسرائيليين الذين يعيشون في الداخل والضفة المحتلة، رغم أن أعداد السكان متساوية تقريباً الآن.
ولمواجهة ذلك، تركز السياسة الإسرائيلية بشكل متزايد على تقليص الوجود الفلسطيني في المناطق الإستراتيجية الحساسة، مع تأطير التهجير كضرورة أمنية وحل "إنساني".
وتظهر هذه الإستراتيجية بوضوح في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين. ففي مارس/آذار 2025، دافع وزير الدفاع يوآف كاتس عن المستوطنات غير القانونية في الضفة المحتلة باعتبارها "ضرورية لحماية المدن الإسرائيلية" بينما وصف الإعلامي المعروف غدعون دوكوف الإجلاء القسري للفلسطينيين من كل فلسطين بـ"الحل الإنساني الوحيد" ونعت الفلسطينيين بأنهم "شعب قاتل".
وتعكس حملة "صراع لأجل البقاء" هذه الرسالة بدورها عبر التركيز على ما أسمته "الهجرة الطوعية". أما أستاذ الجغرافيا السياسية في الجامعة العبرية بالقدس، فيقول من جهته على منصة التواصل الاجتماعي "إكس" إن ضم الضفة "أعظم إنجاز صهيوني منذ عام 1967" داعياً إلى اغتنام هذه الفرصة التاريخية.
إعداد:
محمد وتد- عوض الرجوب- محمد الحداد
تحرير:
محمد العلي
إنفوغراف
محمد الحداد- قسم الوسائط
المصدر : الجزيرة
0 تعليق