مع تحرّك القوات الأميركية نحو المنطقة، بات مسار الصراع المتسارع بين إسرائيل وإيران مرهونًا بسلسلة من القرارات الإستراتيجية التي ستُتخذ في الأيام أو الأسابيع المقبلة.
وبالنظر إلى أن إسرائيل، على الأرجح، لن تتمكن من تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل بمفردها، فإن إغراء تدخل الولايات المتحدة لاستكمال المهمة سيزداد مع تضاؤل فرص الحلول الدبلوماسية.
وقد عبّر الرئيس دونالد ترامب عن تفضيله "نهاية حقيقية" لهذا الصراع، مما قد يدفعه إلى اتخاذ خطوة حاسمة بدلًا من ترك الأمور معلّقة بشأن مصير الطموحات النووية الإيرانية. ومن وجهة نظره، فإن "النهاية الحقيقية" تتطلب تدمير البرنامج الإيراني لتخصيب اليورانيوم، عبر الحرب أو عبر إخضاع قادة البلاد.
البرنامج النووي الإيراني.. مسار حافل بالخيارات
يعكس مسار البرنامج النووي الإيراني خلال العقد الماضي سلسلة من القرارات الحاسمة، بدءًا من توقيع جميع الأطراف على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، التي هدفت إلى تغليب الدبلوماسية.
فقد فرضت الخطة قيودًا وآليات رقابة، ورغم أنها لم تكن مثالية، فإنها طمأنت المجتمع الدولي إلى أن إيران لن تستطيع تطوير سلاح نووي بسرعة أو من دون اكتشاف.
بيدَ أن الولايات المتحدة، في عام 2018، قررت الانسحاب من الاتفاق بشكل أحادي الجانب، وزادت من وطأة العقوبات ضمن حملة "الضغط الأقصى" على أمل التوصل إلى اتفاق "أفضل"؛ وذلك رغم التزام إيران الواضح بكل بنود الاتفاق، وكل المؤشرات التي أكدت أن الاتفاق كان يعمل بنجاح.
ومع تنصل الولايات المتحدة من التزاماتها، تخلت إيران عن القيود التي التزمت بها بموجب الاتفاق، ووسّعت من قدرتها على تخصيب اليورانيوم، واقتربت تدريجيًا من العتبة التي تتيح لها امتلاك قدرة على صنع سلاح نووي.
مع ذلك، وعلى مدى ما يقرب من 7 سنوات منذ انهيار الاتفاق، لم تتخذ إيران قرارًا فعليًا بالسعي نحو امتلاك سلاح نووي، وهو ما أكّدته تقديرات الاستخبارات الأميركية في وقت سابق من هذا العام.
إعلان
وفي جولة المفاوضات الأخيرة، فرضت إدارة ترامب مهلة زمنية مدتها 60 يومًا انتهت مؤخرًا، لتُعلن إيران بعدها عن قيامها بإجراءات استفزازية تهدف إلى تعزيز قدراتها النووية.
وكان من المقرر عقد جولة جديدة من المحادثات، غير أن إسرائيل رأت أن الفرصة تضيق، فبادرت بالتحرك.
الهجوم الإسرائيلي.. نافذة إستراتيجية لن تتكرر
رأت إسرائيل في اللحظة الراهنة نافذة إستراتيجية آخذة في الانغلاق، فأطلقت حملة عسكرية مخططًا لها مسبقًا ضد البرنامج النووي الإيراني. وكانت قدرة إيران على الرد ضعيفة إلى حد غير مسبوق منذ عقود: فحزب الله مشلول عمليًا، وحركة حماس محاصَرة، وتدخل سوريا لم يعد مطروحًا.
وبعد أن تصدت إسرائيل لهجوم صاروخي إيراني واسع النطاق في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 بدعم تحالف دولي، رجّحت أنها قادرة على تحمّل أي رد إيراني جديد.
يضاف إلى ذلك أن التطورات الحديثة في تكنولوجيا الطائرات المسيّرة المحمولة وتكتيكات استخدامها، مكّنت إسرائيل من تنفيذ خطة لتعطيل الدفاعات الجوية الإيرانية، وهو أمر قد لا يتكرر لاحقًا مع تطور أنظمة التصدي للطائرات المسيّرة.
وفي ظل إدارة أميركية ودودة للغاية (وربما متساهلة)، اقتنصت إسرائيل الفرصة لتوجيه الضربة.
أهداف غامضة ومحدودية القدرات
مع ذلك، لا تزال أهداف إسرائيل من هذه العملية غير واضحة المعالم. فبينما تُفضل تل أبيب حدوث تغيير في النظام الإيراني، فإن تاريخ التدخل الأميركي في الشرق الأوسط أثبت صعوبة تحقيق مثل هذا الهدف، لذا، وكما أشار محللون من أمثال تريتا بارسي، فإن الأرجح أن إسرائيل تأمل في "انهيار النظام" بدلًا من إسقاطه بشكل مباشر.
وإذا كان الهدف هو إطالة المدة التي تحتاجها إيران لامتلاك سلاح نووي (breakout time)، فقد يكون هذا ممكنًا، لكنه في نهاية المطاف قد يكون عديم الجدوى إذا دفع إيران في النهاية إلى اتخاذ قرار بإنتاج قنبلة نووية.
أما إذا كان الهدف هو تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، فإن معظم المحللين يجمعون على أن إسرائيل غير قادرة على ذلك من الناحية العسكرية، إذ لا تملك القوة أو المعدات الكافية. أما الولايات المتحدة، من الناحية النظرية، فتمتلك تلك الإمكانية.
منشأة فوردو.. العقدة الأصعب
تكمن كبرى العقبات في منشأة تخصيب اليورانيوم الإيرانية في فوردو، والتي تقع داخل جبل عميق. لا تمتلك قوات الدفاع الإسرائيلية ذخائر خارقة للتحصينات قادرة على النفاذ عميقًا لتدمير هذه المنشأة.
في المقابل، تملك القوات الجوية الأميركية قنبلة "GBU-57A/B" (السلاح الضخم لاختراق التحصينات)، وهي قنبلة تزن 30 ألف رطل ويقال إنها قادرة على اختراق ما يصل إلى 200 قدم من الخرسانة المسلحة.
وقد صُممت هذه القنبلة خصيصَى لضرب المنشآت المحصّنة تحت الأرض، وتمنح فرصة قوية لتدمير منشأة فوردو، وإن كان ذلك سيتطلب غالبًا عدة ضربات متتالية. وتبقى الطائرة الوحيدة القادرة على حمل هذا السلاح هي القاذفة الشبح "B-2 Spirit"، مما يعني أن الولايات المتحدة وحدها تستطيع تنفيذ هذه المهمة.
أما إسرائيل، فعلى الرغم من عجزها عن تدمير المنشأة مباشرة، فقد تسعى إلى استهداف مداخل ومخارج المنشأة، أو الأنفاق والتهوية والبنية الكهربائية الداعمة، بما يقلل من فاعلية المنشأة، أو يدمّر أجهزة الطرد المركزي في الداخل.
إعلان
غير أن مثل هذه الهجمات ستتطلب تكرارًا دوريًا للحيلولة دون إعادة البناء واستعادة الدفاعات الجوية، وهو سيناريو قد يذكّر بـ"منطقة الحظر الجوي" الدائمة التي فُرضت على العراق بعد حرب الخليج، وهو وضع لا يمكن تحمّله على المدى البعيد.
القرار عند ترامب
وبالتالي، فإن قرار تدمير منشأة فوردو يعود للرئيس ترامب. وتشير استطلاعات الرأي إلى انخفاض التأييد الشعبي لأي هجوم، ولا سيما أن ترامب يمتلك تاريخًا متناقضًا فيما يخص الحروب في الشرق الأوسط، إذ سبق أن أعرب مرارًا عن رغبته في تجنبها. وإذا أرادت الولايات المتحدة تجنّب تعريض قواتها ومصالحها في المنطقة للخطر، فإن البقاء خارج الصراع يبقى الخيار الأفضل.
لكن ترامب معروف أيضًا بتقلب آرائه وتبدّل مواقفه فجأة، وقد أطلق مؤخرًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي تصريحات نارية، متهمًا إيران بالتعنّت في المفاوضات، ومطالبًا بـ"الاستسلام غير المشروط!".
وإذا كانت سياسته المعلنة هي منع إيران من امتلاك سلاح نووي، فإن الخيار العسكري قد يبدو السبيل الوحيد لتحقيق ذلك، خاصة بعد أن يدفع الهجوم الإسرائيلي إيران إلى تسريع جهودها نحو التسلح النووي.
فرصة أخيرة أم فخ إستراتيجي؟
قد يشعر ترامب أيضًا بأن الفرصة سانحة لتدمير البرنامج النووي الإيراني بعد سنوات من إخفاق الدبلوماسية، فقد أدى الهجوم الإسرائيلي إلى شل قدرة إيران على الدفاع الجوي، مما يقلل من خطر استخدام القوات الجوية الأميركية في الهجوم.
كما أن الحشد العسكري الأميركي في المنطقة يجري حاليًا، ظاهريًا لتوفير "خيارات" للرئيس، لكن مع توافر هذه الخيارات، قد يصعب مقاومة إغراء استخدامها لحل المشكلة النووية بشكل نهائي، خاصة إذا استمرت إيران في التمسك ببرنامجها للتخصيب.
خيارات إيران.. التصعيد محفوف بالمخاطر
أما إيران، فمصلحتها الأولى هي إبقاء الولايات المتحدة خارج هذا الصراع، فالتصعيد إذا خرج عن السيطرة قد يجر هجومًا أميركيًا لا قِبَل لها به. وإذا ردّت إيران على الهجمات الإسرائيلية بضرب القوات الأميركية أو مصالحها -كاستهداف قواعدها في المنطقة أو إغلاق مضيق هرمز- فمن المرجح أن ترد واشنطن عسكريًا.
غير أن ضرب المنشآت النووية الإيرانية سيُسقط أيّ تحفظ كانت طهران تبديه في استهداف المصالح الأميركية، وسيوسّع حتمًا رقعة النزاع ليصبح إقليميًا.
وقد ترتكب إيران خطأ إستراتيجيًا إذا أغلقت مضيق هرمز، إذ قد يحرّك ذلك تحالفًا عربيًا ضدها، تحالفًا لا يهتم كثيرًا برأي الشارع تجاه إسرائيل، بقدر ما يركّز على مصالحه الاقتصادية المباشرة.
فخلافًا لحرب الخليج الأولى التي حرصت فيها الولايات المتحدة على إبقاء إسرائيل خارج المعركة؛ حفاظًا على وحدة التحالف، فإن تهديد إيران لمصالح جيرانها قد يجعل الغضب من إسرائيل أمرًا ثانويًا.
المشهد غير محسوم حتى اللحظة الأخيرة
اليقين الوحيد في هذه اللحظة هو "اللايقين"، فحتى الرئيس ترامب نفسه قال إنه لا يعلم إن كان سيوجه ضربة إلى إيران أم لا. ومع أن نيته المُعلنة هي إيجاد حل دبلوماسي للأزمة، فإن الهجوم الإسرائيلي قد غيّر جذريًا من طبيعة البيئة السياسية والعسكرية، وأعاد حسابات كل الأطراف المعنية.
لقد أجبرت التهديدات العسكرية، مصحوبة بالضغوط الاقتصادية، إيران على التفاوض في عامي 2015 و2025. لكن، وبما أن العمل العسكري قد بدأ فعليًا، فقد تغيّرت معادلة الحلول المقبولة لجميع الأطراف.
وقد يختار ترامب التريّث لتقييم نتائج الحملة الإسرائيلية، أو الانضمام لضمان تدمير منشأة فوردو، أو استخدام التهديد العسكري كأداة لفرض شروطه.
وفي خضم كل ذلك، لا أحد يمكنه الجزم بما سيحدث. وكما يقول ترامب دائمًا: "سنرى ما سيحدث".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق