يفتح التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران وما تخلله من تهديدات بتقويض النظام في طهران الباب أمام سيناريوهات خطيرة لا تقتصر تداعياتها على طرفي النزاع فقط، بل تمتد إلى الدول المجاورة، وفي مقدمتها الهند بوصفها دولة محورية في جنوب آسيا تمتلك موقعا جيوسياسيا حساسا وتاريخا مركبا من العلاقات مع طهران وتل أبيب.
ويضع هذا التصعيد العسكري غير المسبوق الهند أمام اختبار دبلوماسي معقّد وفي موقع بالغ الحساسية، فمن جهة تربطها شراكة أمنية وإستراتيجية عميقة مع إسرائيل تشمل صفقات تسليح ضخمة وتعاونا استخباراتيا وتكنولوجيا كبيرا، ومن جهة أخرى تحرص على الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع إيران التي طالما كانت موردا مهما للطاقة وشريكا في مشاريع الربط الإقليمي مثل ميناء تشابهار.
الهند -التي لطالما درجت على تبني سياسة خارجية قائمة على موازنة علاقاتها مع الدول المتنافسة خلال الأزمات وفق مقال تحليلي لمجلة فورين بوليسي الأميركية- باتت أمام استحقاق الدور الذي ستلعبه في الأزمة الراهنة، وسط تساؤلات عما إذا كانت ستبقى في مربع الحياد الحذر؟ أم تقدم دعما غير مباشر لإسرائيل؟ وكيف سيؤثر هذا الدور على مكانتها الإقليمية والدولية، خصوصا في ظل سعيها للظهور كقوة آسيوية متوازنة في بيئة مشحونة بالاستقطاب؟

الشراكة الهندية الإسرائيلية
منذ مطلع التسعينيات شهدت العلاقات الهندية الإسرائيلية تحولا نوعيا تجاوز التعاون السري في الشأن الأمني ليصبح شراكة علنية ومتعددة الأوجه في مجالات الدفاع والتكنولوجيا المتقدمة والأمن السيبراني والزراعة.
وتحولت تل أبيب إلى أحد أبرز موردي الأسلحة للهند، حيث وقّع الجانبان صفقات دفاعية بمليارات الدولارات خلال العقد الماضي.
ومع صعود رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى السلطة اكتسب هذا التحالف طابعا سياسيا أوضح، إذ كان أول زعيم هندي يزور إسرائيل رسميا عام 2017، واصفا العلاقة بين البلدين بأنها "خاصة" ومرتكزة على "مواجهة تهديدات مشتركة"، في إشارة إلى التحديات الأمنية والإرهابية كما تراها نيودلهي وتل أبيب.
إعلان
اتخذت الهند منذ بداية عملية طوفان الأقصى موقفا مؤيدا لما سمته الرد الإسرائيلي على لسان وزير خارجيتها جاي شنكر، وأكد رئيس وزرائها مودي أن "الإرهاب ليس له مكان في عالمنا"، في حين طالب سفير إيران في الهند إعراج إلهي نيودلهي بإدانة جرائم الاحتلال في غزة واستخدام علاقاتها مع إسرائيل لإيقاف الإبادة، وهو ما يعكس تناقضا واضحا في المواقف بين الطرفين.
ورغم ذلك فإن الموقف الهندي أوضح أنه ضد توسيع الصراع في المنطقة، وعبر وزير الخارجية الهندي عن رغبة إيران بلعب دور الوسيط بين إسرائيل وإيران عقب المواجهة العسكرية التي حدثت بينهما العام الفائت.
وتحتل الهند موقعا متقدما ضمن قائمة مستوردي الأسلحة الإسرائيلية، إذ تستحوذ على نحو 42% من صادرات تل أبيب العسكرية، وتشمل أنظمة متطورة مثل طائرات "هيرون" و"هيرمس 900″ المسيّرة، ومنظومات الدفاع الجوي "باراك"، وأنظمة الإنذار المبكر، إلى جانب تدريبات عسكرية مشتركة وتبادل استخباراتي في ملفات "مكافحة الإرهاب".

الشراكة الهندية الاقتصادية مع إيران
على الرغم من تعاظم علاقاتها مع إسرائيل فإن نيودلهي حافظت على علاقات نشطة مع طهران أساسها المصالح في مجال الطاقة والنقل الإقليمي، حيث ظلت إيران لسنوات المورد الرئيسي للنفط الخام للهند، ومُشارِكة في تطوير ميناء تشابهار الإيراني الإستراتيجي الذي يعد مدخلا إلى أفغانستان وآسيا الوسطى دون المرور عبر باكستان.
لكن منذ 2019 أجبرت العقوبات الأميركية على صادرات النفط الإيرانية الهند على التراجع في التعاون مع طهران بشكل كبير، وفي فبراير/شباط 2025 طالت العقوبات 4 شركات هندية لاستيرادها النفط الإيراني.
وواجه مشروع تشابهار أيضا ضغوطا من واشنطن رغم أهميته الإستراتيجية المتزايدة، مما ساهم في تراجع صادرات الهند إلى إيران من الأرز والأدوية، وسط استمرار التعاون في مجالات مثل الأمن البحري والطاقة، ورغم انحسار واردات النفط فإن قنوات الاتصال بقيت مفتوحة، فقد شددت نيودلهي على توسيع حضورها في ميناء تشابهار، كما اتسعت مجالات التعاون في الملف الأفغاني، خاصة بعد الانسحاب الأميركي.
لكن العلاقة بين البلدين لا تخلو من التوتر، إذ لم تخفِ إيران في أكثر من مناسبة استياءها من أن الهند تضحي بها تحت ضغط الغرب أو إرضاء لإسرائيل، الأمر الذي عبرت عنه من خلال دعم المرشد الأعلى علي خامنئي لنضال الشعب الكشميري ومطالبة مسلمي العالم بدعمهم للتخلص من الاحتلال.
وكان خامنئي قد وصف الوضع الراهن في كشمير بأنه نتيجة الإجراءات الخبيثة لبريطانيا قبل خروجها من شبه القارة الهندية، وأن البريطانيين تركوا هذا الجرح في هذه المنطقة بشكل متعمد من أجل استمرار الصراع في كشمير، وهي تصريحات لم تلق ترحيبا في نيودلهي بالطبع، ومع ذلك فإن نيودلهي تحرص على إبقاء إيران ضمن دائرة النفوذ الناعم دون الانخراط في تحالف مباشر معها، خشية الإضرار بعلاقاتها الخليجية والأميركية.
موقف الهند من التصعيد الأخير
منذ بدء الهجمات الإسرائيلية في 13 يونيو/حزيران الجاري على إيران اتخذت الهند موقفا متحفظا، ويأتي ذلك متسقا مع ما شهدناه خلال العامين الفائتين، فبعد امتناعها عن التصويت على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة رفضت الهند الانضمام إلى بيان منظمة شنغهاي الذي أدان الهجمات الإسرائيلية على إيران واعتبرها انتهاكا للسيادة الإيرانية.
إعلان
وبدلا عن ذلك أصدرت وزارة الخارجية الهندية بيانا مقتضبا دعت فيه جميع الأطراف إلى "ضبط النفس والعودة إلى الحوار"، دون الإشارة إلى أي طرف بعينه ضمن محاولتها الحفاظ على إستراتيجية "الظهور كقوة عاقلة في عالم مضطرب"، فهي لم تُدن إسرائيل، لكنها لم تبارك هجماتها أيضا.
وأشار مايكل كوغيلمان كاتب الموجز الأسبوعي في مجلة فورين بوليسي -والذي يتناول الأحداث في منطقة جنوب آسيا- إلى أن قرار نيودلهي يعكس مدى الصعوبات الدبلوماسية التي ستواجهها في التعامل مع صراع جديد خطير في الشرق الأوسط.
هذا الحياد أثار جدلا داخليا في الهند، حيث اتهمت المعارضة حكومة مودي بالتخلي عن سياسة "عدم الانحياز" التاريخية والتقرب من إسرائيل، خاصة من حزب المؤتمر الذي وصف ذلك بأنه "تقرب مفرط من إسرائيل على حساب مكانة الهند الأخلاقية".
في المقابل، بررت الخارجية الهندية هذه المواقف بكونها "دبلوماسية متوازنة"، واعتبرت أن صياغة بعض البيانات الدولية "تميل إلى الإدانة الأحادية لإسرائيل دون مراعاة تعقيدات الواقع".
كما أعربت الوزارة عن "قلق عميق" من التوتر القائم، ودعت جميع الأطراف إلى "الكف عن التصعيد والعودة إلى مسار الحوار والدبلوماسية"، مشددة على أن "المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للهند تحتم عدم تحول العلاقات مع طهران إلى محور استقطابي".
وترى طهران أن امتناع الهند عن تأييد المواقف الداعمة لها في المحافل الدولية قد لا يكون مجرد تحفظ دبلوماسي، بل انحياز ضمني إلى إسرائيل، مما يزيد المخاوف الإيرانية من أن تُستخدم شراكات الهند مع تل أبيب في تبادل معلومات استخباراتية أو في مراقبة النفوذ الإيراني بمناطق مثل أفغانستان أو بحر العرب.
وفي خلفية هذه العلاقة المزدوجة تقف دول الخليج العربي كعامل ضغط مهم، فالهند ترتبط بشراكات اقتصادية كبرى مع السعودية والإمارات، وتعد ملايين العمال من الجالية الهندية المقيمة هناك عنصرا حيويا في اقتصادها، وهذا ما يجعل نيودلهي تحرص على عدم إثارة استياء العواصم الخليجية، سواء من خلال التقرب الزائد من إيران أو التصعيد المبالغ فيه في دعم إسرائيل.
ولا يمكن تجاهل دور الصين الخصم الجيوسياسي للهند التي تربطها علاقات وثيقة بطهران، سواء عبر مبادرة "الحزام والطريق"، أو في التعاون العسكري والاستخباراتي.
وتخشى نيودلهي من أن تدفع أي مواجهة إيرانية إسرائيلية حادة إيران أكثر نحو بكين على حساب الشراكة المحتملة مع الهند، وقد يُضعف ذلك قدرتها على لعب دور "الجسر بين الشرق والغرب".
فوائد مقابل مخاطر عالية
ويمكن القول إن دوافع الهند المحتملة في دعم غير معلن لإسرائيل "إن حصل" تعتمد على اعتبارات إستراتيجية عدة، أبرزها ضمان استمرار الحصول على تقنيات دفاعية متطورة، وتعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة في سياق مواجهة ناعمة للصين، وتقليص الاعتماد على إيران كمصدر للطاقة، إلى جانب الاستفادة من نقل التكنولوجيا في قطاعات حيوية كالمياه والزراعة.
لكن هذه الفوائد تقابلها مخاطر عالية، من بينها تصاعد التوتر مع إيران ودول الخليج، وتنامي الاحتقان الداخلي نتيجة الرفض الشعبي لأي تحالف صريح مع إسرائيل، خاصة في أوساط الأقلية المسلمة داخل الهند.
استمرار الصمت الحذر قد يمنح الهند هامشا مؤقتا للمناورة، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام ضغوط متزايدة من واشنطن وتل أبيب لتعزيز الشراكة في مجالات الأمن السيبراني والاستخبارات، خاصة إذا طال أمد المواجهة.
في المقابل، قد ترى طهران في هذا الحياد نوعا من التواطؤ، وهو ما قد يهدد مشاريع مثل "تشابهار"، ويعيد تنشيط التوتر الحدودي غير المعلن بين البلدين.
وفي هذا السياق، يُرجَح أن تسعى نيودلهي إلى لعب دور مزدوج خلال المرحلة المقبلة من خلال تقديم نفسها وسيطا يحظى بثقة الطرفين، بالتوازي مع تعزيز التعاون مع إسرائيل في ملفات محددة دون الانخراط في تحالف معلن.
إعلان
وبحسب "فورين بوليسي"، فإن نهج تعامل الهند مع الصراع الإسرائيلي الإيراني يشبه موقفها من الحرب في أوكرانيا، فمن ناحية لن تدين إسرائيل وقادتها على الهجمات، ومن ناحية أخرى ستؤكد ضرورة تهدئة حدة المواجهات بين البلدين، وإفساح المجال للدبلوماسية لإنهائها.
ويبقى التحدي الأكبر أمام السياسة الهندية هو إثبات قدرتها على الحفاظ على هذا التوازن الدقيق في منطقة باتت أكثر استقطابا ومواقف أقل تسامحا مع الوقوف على الحياد.
0 تعليق