"ديفايس".. كيف يعيد الذكاء الاصطناعي بناء وجهك من الحمض النووي؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

في عالم تتزايد فيه الحاجة إلى أدوات دقيقة لتحديد الهوية، برز الوجه البشري كأحد أهم السمات البيومترية التي تحمل بصمة جينية فريدة.

لطالما شكلت ملامح الوجه مفتاحا بصريا للتعرف على الأفراد، ليس فقط في الحياة اليومية، بل في ميادين دقيقة كعلم الأدلة الجنائية، حيث تلعب الخصائص الشكلية دورا حاسما في تحديد الهوية، خاصة عند غياب وسائل التعرف التقليدية.

ومع تطور تقنيات التسلسل الجيني عالي الإنتاجية، اتسعت آفاق التعرف الجنائي لتشمل نهجا أكثر طموحا: استخراج ملامح الوجه من الحمض النووي وحده.

ورغم التحديات التي تفرضها الطبيعة المعقدة للوراثة الوجهية، والتأثيرات المتشابكة للعوامل البيئية والجينية، تتوالى المحاولات لتجسيد الملامح البشرية انطلاقا من المادة الوراثية.

بيد أن تحويل الشيفرة الوراثية مباشرة إلى ملامح وجهية واقعية ظل هدفا معقدا، بفعل محدودية الفهم الجيني وصعوبة التنبؤ الدقيق بشكل الوجه البشري. ولكن بزوغ تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخاصة نماذج التوليد متعددة الوسائط، أفسح المجال لابتكارات جذرية في هذا المجال.

وضمن هذا السياق، تبرز تقنية "ديفايس" (Difface) بوصفها مقاربة جديدة توظف نماذج الانتشار وخرائط التقابل بين البيانات الجينية والصور، لإعادة بناء وجه الإنسان بصورة ثلاثية الأبعاد اعتمادا على تسلسل الحمض النووي.

كيف يحول "ديفايس" الشيفرة الجينية إلى وجه ثلاثي الأبعاد؟

في دراسة حديثة نُشرت في مجلة "أدفانسد ساينس" (Advanced Science)، طور فريق من الباحثين في الأكاديمية الصينية للعلوم نموذجا مبتكرا يدعى "ديفايس"، يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء صور ثلاثية الأبعاد لوجوه البشر مباشرة من بيانات الحمض النووي.

ويربط هذا النموذج بين متغيرات جينية محددة تُعرف بتعدد أشكال النوكليوتيد المفرد (Single Nucleotide Polymorphisms-SNPs) والملامح الوجهية الظاهرة، مما يمكّنه من توقع ملامح الوجه بدقة.

إعلان

وفي تعليق له، قال لونين تشين، أحد مؤلفي الدراسة: "تمكنت ‘ديفايس’ بشكل مذهل من إنشاء صور وجه ثلاثية الأبعاد للأفراد اعتمادا فقط على بيانات الحمض النووي، متوقعة مظهرهم في أعمار مستقبلية مختلفة".

ويستخدم "ديفايس" مزيجا من تقنيات متقدمة، تشمل التعلم متعدد الوسائط بالتباين، والهياكل الهجينة من المحولات (Transformers)، والتلافيف الحلزونية (Spiral Convolutions)، إضافة إلى آلية توليد تعتمد على نماذج الانتشار (Diffusion Models)، لترجمة الشيفرة الوراثية إلى تمثيل وجه واقعي عالي الدقة.

"ديفايس" يستخدم مزيجا من تقنيات متقدمة، تشمل التعلم متعدد الوسائط بالتباين (صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي)

دقة جينية مدهشة في محاكاة الملامح

بحسب ما جاء في ورقة البحث، تمّ تدريب نموذج "ديفايس" باستخدام 9674 مجموعة بيانات تشمل ملفات المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" (SNPs) وعمليات مسح ثلاثي الأبعاد لوجوه أفراد من عرق الهان الصيني.

حيث يعتمد النموذج على تمثيل البيانات الجينية والسطوح الوجهية في مساحة مميزة منخفضة الأبعاد عبر تقنيات التعلم بالتباين، ثم يستخدم مكونات توليدية قائمة على نموذج الانتشار لإعادة بناء الوجه ثلاثي الأبعاد من هذا التمثيل.

وقد ساهم دمج متغيرات إضافية مثل العمر، والجنس، ومؤشر كتلة الجسم (BMI) في تعزيز دقة إعادة البناء بشكل ملحوظ، حيث حقق نموذج "ديفايس" معدل تعريف من الدرجة الأولى (Rank-1) بنسبة 3.33%، ومنطقة تحت المنحنى (AUC) بنسبة 80.7% في مهام التحقق.

من جهة أخرى، بلغ متوسط خطأ إعادة بناء الوجه (المسافة الإقليدية) 3.52 مليمترات عند استخدام متغيرات "إس إن بي إس" فقط، وانخفض إلى 2.93 مليمتر عند تضمين المتغيرات الظاهرية. كما أظهر النموذج قدرة دقيقة على التقاط التغيرات الوجهية عبر الفئات العمرية المختلفة، وحقق دقة تصنيف عالية في التمييز بين السمات الوجهية.

هل يمكن الوثوق بنتائج "ديفايس" رغم محدودية البيانات؟

رغم تفوق نموذج "ديفايس" في الحفاظ على دقة عالية حتى عند استخدام بيانات جينية جزئية، فقد لوحظ تراجع في الأداء عندما انخفضت تغطية المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" إلى أقل من 70%.

ومع ذلك، أظهر النموذج تنوعا وجهيّا شبه مطابق للتنوع الواقعي، حيث بلغت درجة التنوع "دي بي بي" (DPP) قيمة 9.66 مقارنة بـ0.9999 في الصور الحقيقية.

ومن أبرز مزاياه أيضا قابليته للتفسير، فبفضل استخدام قيم "إس إتش إيه بي" (SHAP) وتقنيات تحليل "جي دبليو إيه إس" (GWAS)، استطاع الباحثون تحديد المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" ذات ارتباط وثيق بسمات محددة مثل شكل الأنف وبنية عظام الخد. وقد تم التحقق من هذه النتائج بيولوجيا، حيث أظهرت توافقا مع مسارات تطورية معروفة في إطار "علم دلالة الجينات" (Gene Ontology).

آفاق تطبيقية واسعة ومستقبل واعد

يُظهر "ديفايس" إمكانات تطبيقية متعددة في مجالات متنوعة، من أبرزها:

الطب الشرعي: إذ يمكن استخدامه للتعرف على الأفراد اعتمادا على عينات "دي إن إيه" (DNA) تالفة أو غير مكتملة. وفي الطب الشخصي: يساهم في تقديم رؤى حول دور الجينات في تشكيل ملامح الوجه. وفي البحوث الجينية: يعزز فهم العلاقة بين الجينوم (Genome) والصفات الشكلية.

وفي تجربة ميدانية، تمكن المشاركون من مطابقة الوجوه الحقيقية مع الوجوه التركيبية بدقة بلغت 75.6% ضمن اختبارات متعددة الخيارات من 5 صور.

إعلان

ورغم أن النموذج تم تطويره باستخدام بيانات جينية من مجموعة سكانية متجانسة عرقيا (العرق الصيني)، فإن بنيته قابلة للتعميم. وقد شدد الباحثون على ضرورة تدريبه مستقبلا على بيانات متعددة الأعراق لتوسيع نطاق استخدامه، وضمان العدالة والإنصاف في مختلف التطبيقات.

finger and hand print on black ground; Shutterstock ID 399219382; purchase_order: AJA; job: ; client: ; other:
بالرغم من التقدم التقني اللافت الذي يقدمه "ديفايس"، فإن استخدامه يثير تساؤلات جوهرية تتعلق بالخصوصية الجينومية (شترستوك)

تساؤلات أخلاقية ملحّة

على الرغم من التقدم التقني اللافت الذي يقدمه "ديفايس"، فإن استخدامه يثير تساؤلات جوهرية تتعلق بالخصوصية الجينومية، وإمكانية إعادة التعرف على الأفراد، وتوظيف التقنية في أنظمة المراقبة البيومترية.

إذ إن القدرة على توليد ملامح وجه من بيانات وراثية مجهولة الهوية تفتح الباب أمام احتمالات إساءة الاستخدام في مجالات مثل القانون، والرعاية الصحية، وشركات التأمين.

وقد حذر الخبراء من أن إساءة استخدام القدرة على استنتاج النمط الظاهري من الحمض النووي قد يؤدي إلى الوصول غير المصرح به إلى بيانات شخصية حساسة، أو حتى تمييز قائم على السمات الجينية المتوقعة.

فعلى سبيل المثال، رغم أن التصوير الظاهري الجنائي "إف دي بي" أصبح أداة متقدمة تستخدم في القضايا المعقدة، فإنه لا يزال يفتقر إلى الدقة الكافية فيما يتعلق بتوقع ملامح الوجه، مما قد يؤدي إلى الاشتباه الخاطئ في أبرياء أو مجموعات سكانية بعينها.

وتجلى هذا القلق في حادثة وقعت عام 2022 في كندا، حينما طلبت شرطة مدينة إدمنتون من العامة المساعدة في التعرف على مشتبه به باستخدام صورة مولدة حاسوبيا بناء على بيانات وراثية من الحمض النووي، في قضية اعتداء جنسي.

وقد واجهت هذه الخطوة انتقادات شديدة بسبب ضعف الشفافية في منهجية توليد الصورة، مما دفع الشرطة لاحقا إلى سحب طلبها. وكانت الصورة قد أُنتجت من قبل شركة "بارابون نانو لابس" (Parabon NanoLabs)، التي خضعت لانتقادات متكررة من قبل نشطاء الخصوصية والأخلاقيات.

من جهته، أكد الباحث المشارك تشين لموقع "كور هاوس نيوز سيرفس" (CourtHouse News Service) عبر البريد الإلكتروني أن الجانب الأخلاقي لم يكن هامشيا، بل "جزءا لا يتجزأ من عملية البحث"، مشيرا إلى أن الفريق اتخذ منذ البداية عددا من الإجراءات الإيجابية لضمان الامتثال الأخلاقي والقانوني، بما في ذلك العمل وفق معايير المراجعة المؤسسية الأخلاقية، وتقييد استخدام البيانات الجينية ضمن حدود البحث العلمي.

إلا أن الأمر يظل مرهونا بوضع إطار تشريعي وأخلاقي شامل، وفتح حوار متعدد التخصصات يجمع بين العلماء، والمشرعين، والخبراء في حقوق الإنسان، لضمان توجيه هذه الابتكارات ضمن مسارات آمنة ومنصفة.

بالنهاية، ورغم الدقة المتقدمة التي بلغها، لا يزال نموذج "ديفايس" في مرحلة التجربة والاستكشاف، مما يستدعي توسيع قاعدة البيانات العرقية، وتحسين تمثيل التنوع البشري، إلى جانب تعزيز الأطر الأخلاقية والقانونية المصاحبة له.

ولعل السؤال الأبرز في المستقبل لن يكون فقط: "هل يمكن التنبؤ بوجه الإنسان من حمضه النووي؟"، بل: "كيف يمكننا استخدام هذه القدرة بمسؤولية؟". سؤال يضع الذكاء الاصطناعي والعلوم الجينية أمام اختبار مزدوج: اختبار التقنية والقيم في آن واحد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق