المهندس صلاح الجنيدي يكشف أسرار تطور دور العبادة منذ فجر التاريخ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

في دراسة فكرية فريدة يعود بنا المهندس صلاح الجنيدي، رئيس هيئة الأوقاف المصرية الأسبق، ليأخذنا في رحلة ساحرة عبر الزمن، من قلب الكهوف الأولى في عصور ما قبل التاريخ، إلى منارات النور التي تتلألأ على وجه الأرض اليوم... إنها رحلة الإنسان نحو الله

هذه الدراسة ليست مجرد سرد لتاريخ المعابد والمساجد والكنائس، بل استكشاف عميق لاحتياج الإنسان الأزلي إلى السكون، وإلى لحظة يخلو فيها إلى روحه، بحثًا عن المعنى، عن السكينة، عن الله.

ومن فقرات الدراسة التي تحمل عنوان "من البحيرة المقدسة إلى الميضأة.. رحلة التطهر عبر العصور" يقول الكاتب إن تطور عناصر الوضوء في دور العبادة عبر العصور يعد رحلة غنية ومتعددة الأبعاد، تحاكي تطور الروح البشرية وحاجتها المستمرة إلى الطهارة. هذه الطقوس المقدسة، التي ارتبطت بأقدس لحظات الإنسان في بحثه عن النقاء، ليست مجرد فعل جسدي بل هي انعكاس لرحلة روحية عميقة تجسد تفاعل الإنسان مع الكون ومع الخالق .

فعبر الزمن، نرى كيف نشأت وتطورت هذه الممارسات، حيث كانت دائمًا سبيلاً لتطهير الروح والجسد معًا، متأثرة في كل مرحلة بمقتضيات الثقافة والطقوس الدينية.

وفي كل حضارة من حضارات الأرض، كان للوضوء طقوسه الخاصة، تلك التي تطورت واستمرت في تعبيراتها الرمزية عن حاجتنا إلى التجديد والصفاء، من المياه المقدسة التي تغسل الجسد إلى الحركات التي تطهر القلب، كل خطوة كانت تشارك في صياغة هوية أمة وتاريخها الروحي. تتشابك هذه الطقوس وتتداخل مع إيقاعات الحياة اليومية، فتسجل بذلك مسارًا يتجاوز المكان والزمان، ويظل يذكرنا بأن التطهر ليس مجرد طقس، بل هو انعكاس للبحث الأبدي عن الصفاء الداخلي والاتصال بالعالم المقدس.

أولا : في المعابد الفرعونية: "البحيرة المقدسة"

في مصر القديمة، كان عنصر الطهارة جزءًا أساسيًا من الممارسات الدينية في المعابد. على وجه الخصوص، كانت المعابد تحتوي على البحيرات المقدسة التي كانت تستخدم للوضوء والتطهر قبل أداء الطقوس الدينية. هذه البحيرات كانت تمثل مكانًا رمزيًا للطهارة الجسدية والروحانية، حيث كان الممارسون يطهرون أنفسهم قبل الاقتراب من الآلهة.

تعتبر فكرة الطهارة في الديانة المصرية القديمة جزءًا من التقديس للحياة والموت والوجود. فكان الماء يمثل رمزًا للنقاء والقداسة، ويستخدم لتطهير الأشخاص من الخطايا أو النجاسات قبل تقديم القرابين أو أداء الطقوس الدينية في المعابد.

ثانيا: في اليهودية: طقوس الاغتسال والوضوء:

في اليهودية، يعتبر التطهر بالماء جزءًا مهمًا من الممارسات الدينية، ويُعرف الطقس الذي يرتبط بهذا التطهر بـ "التَّغْسيل" أو "التيبيل" (T'vila). لا يُعتبر هذا الطقس مجرد طهارة جسدية، بل له أيضًا بُعد روحي، ويعكس طهارة الشخص للقاء الله أو لممارسة طقوس معينة في المجتمع الديني.

التعميد أو "التَّغْسيل" في اليهودية:

في اليهودية القديمة، كان التطهر بالماء جزءًا من الطقوس التي تسبق الدخول في المعابد أو أداء بعض الأنشطة الدينية. كان من المفترض أن يُطهر الشخص نفسه من النجاسات أو الخطايا التي قد تعيقه عن الاقتراب من الله أو المشاركة في الطقوس الدينية. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك هو التطهر الذي كان يتم قبل الدخول إلى المعبد في العهد القديم، حيث كان يتم الغسل في "المايكفاه" (Mikveh) — وهو حمام خاص يستخدم فيه الماء الطاهر.

المايكفاه (Mikveh):

المايكفاه هو حوض مخصص لتطهير الشخص بشكل كامل، ويجب أن يكون هذا الماء طاهراً ومن مصدر طبيعي (مثل مياه الأمطار أو الجداول الطبيعية). هذا الحوض يُستخدم بشكل خاص في حالتين رئيسيتين:

الطهر بعد الحيض: يعتبر تطهر النساء بعد الدورة الشهرية واجبًا دينيًا، حيث يجب عليهن الغسل في المايكفاه.

التحول الديني (التوراة): عندما يرغب غير اليهود في التحول إلى اليهودية، يكون الغسل في المايكفاه جزءًا من الطقوس التي تجسد تجديد الشخص وولادته من جديد كعضو في الأمة اليهودية.

التعميد في العهد القديم:

قبل دخول بني إسرائيل إلى أرض كنعان، كانت هناك طقوس تطهير يتم فيها غسل الجسد، خاصة قبل الأحداث الكبرى مثل استلام الوصايا في جبل سيناء. هذا يعكس فكرة الطهارة الجسدية والروحية المطلوبة للقاء الله.

التطور في الفكر اليهودي:

على مر العصور، تم الحفاظ على أهمية الماء كعنصر طاهر. في العصور اللاحقة، أصبح التطهر بالماء مكونًا أساسيًا في الطقوس اليهودية اليومية. ففي التقليد اليهودي، يعتبر الماء جزءًا أساسيًا من الطهارة الروحية والجسدية، وتُحترم تلك الطقوس حتى في الحياة اليومية، مثل غسل اليدين قبل تناول الطعام.

الوضوء في العهد الجديد (التأثير المسيحي):

تأثرت بعض الطقوس اليهودية بالمسيحية في العهد الجديد، حيث نجد أن يسوع المسيح استخدم طقوس الغسل كجزء من تعاليمه. يمكن القول إن بعض الطقوس المسيحية المتعلقة بالمعمودية تأثرت بالممارسات اليهودية التقليدية في ما يتعلق بالغسل بالماء.

خلاصة القول : في اليهودية، يشكل التطهر بالماء طقسًا مهمًا للتواصل الروحي مع الله، والمايكفاه هو المكان الرئيس الذي يتم فيه هذا التطهر. يرتبط التطهر بالماء في اليهودية ليس فقط بممارسات طقسية، ولكن أيضًا بتطهير الروح من النجاسات المادية أو الروحية. هذه الطقوس تتجسد في الرغبة في النقاء الجسدي والروحي، وتستمر في التأثير على اليهودية الحديثة وتقاليدها الدينية.

ثالثا : في المسيحية: المعمودية (Baptistry)

في المسيحية، يعد الغطس في الماء جزءًا أساسيًا من الطقوس، حيث يتم تطهير الشخص من الخطيئة الأصلية ويُحمل به في حياة جديدة. لهذا الغرض، أنشأ المسيحيون أماكن خاصة للمعمودية تسمى المعمودية أو "Baptistry"، وهي عادةً ما تكون غرفًا أو بركًا خاصة تقع بجانب الكنائس. بدأ استخدام المعمودية بشكل رسمي منذ العصور المسيحية الأولى، وكان يعتبر من أسس الدخول في المجتمع المسيحي.

المعمودية ليست مجرد تطهير مادي، بل هي رمزية لخلاص الروح، حيث يتم غسل الشخص من خطاياه ليولد من جديد. لذلك، يمكن القول إن الطهارة في المسيحية لها بُعد روحي عميق يتجاوز مجرد الطهارة الجسدية.

رابعا: في الإسلام: الميضأة (الوضوء):

في الإسلام، يعتبر الوضوء أو التطهر بالماء شرطًا أساسيًا للصلاة. فالوضوء هو أحد الطقوس الدينية التي يتم فيها غسل أجزاء معينة من الجسم (اليدين، الفم، الأنف، الوجه، القدمين) باستخدام الماء النقي قبل أداء الصلاة. يتجسد في الوضوء مفهوم الطهارة الجسدية والنقاء الروحي في آن واحد.

تطور مفهوم الوضوء في الإسلام ليشمل ليس فقط الطهارة من الأوساخ الجسدية بل أيضًا تطهير الروح والنية، حيث يمكن اعتبار الوضوء بمثابة إعداد روحي للعبادة. كان في البداية جزءًا من التقاليد الدينية قبل الإسلام، وتحديدا في الديانات السابقة مثل اليهودية والمسيحية. ولكن في الإسلام تم تبني هذه الفكرة بشكل موسع وأصبح الوضوء جزءًا أساسيًا في الحياة اليومية للمسلم.

النشأة والوظائف المشتركة عبر الأديان:

النشأة: فكرة الطهارة ليست حديثة بل تمتد عبر العصور والديانات. يمكن القول إن الرغبة في الطهارة بدأت في مختلف الحضارات القديمة مثل الحضارة الفرعونية والعراقية القديمة. في معظم هذه الديانات، كان الماء يُعتبر عنصرًا مقدسًا للتطهر الروحي والجسدي.

الوظائف المشتركة: تطورت فكرة الطهارة عبر الأديان لتشمل وظائف متعددة:

طهارة جسدية: تطهير الجسم من الأوساخ أو الأشياء التي قد تعيق التواصل مع الآلهة أو الوجود المقدس.

طهارة روحية: تطهير النفس من الخطايا والذنوب لتكون مؤهلة للتواصل مع الكائنات المقدسة أو للقيام بالطقوس الدينية.

الامتداد عبر العصور:

كما ترى، أن كل عنصر من عناصر دور العبادة يتصل بتقاليد وأفكار دينية سابقة. فالوضوء والماء المقدس يعتبران امتدادًا لفكرة الطهارة في العصور القديمة. ففي المعابد الفرعونية، كان الماء رمزًا للنقاء، وفي المسيحية أصبح الماء مرتبطًا بالمعمودية والخلاص، وفي الإسلام تم ترسيخ فكرة الوضوء لتكون طهارة دينية قبل الصلاة. وبالتالي، نجد أن الطهارة كانت دائمًا جزءًا مهمًا في تهيئة الشخص للاتصال بالمقدس أو للعبادة، وهي فكرة عميقة ومتواصلة بين الأديان والثقافات المختلفة.


تُظهر هذه العناصر جميعها أن الطهارة ليست مجرد فكرة دينية، بل هي جزء أساسي من التفاعل بين الإنسان والمقدس، وتتمثل في وسائل وطرق تتناسب مع كل حضارة وديانة.

في الختام، نجد أن الطهارة، سواء كانت جسدية أم روحية، هي جوهر العبادة الحقيقية التي تتجاوز الممارسات الظاهرة لتصل إلى أعمق أعماق الروح. من البحيرات المقدسة في المعابد الفرعونية، إلى المعمودية سواء فى اليهودية أو المسيحية، وصولًا إلى الوضوء في الإسلام، كانت هذه الطقوس دائمًا ما تعكس رغبة الإنسان في الاقتراب من الله، والتهيؤ للقاءه في حالة من الطهارة والنقاء. هذه الممارسات ليست مجرد طقوس مادية، بل هي تمارين روحية تهدف إلى تطهير النفس وإعدادها للعبادة الصادقة. فكل خطوة في هذه الطقوس هي علامة على طاعة الإنسان لربه، واعترافه بضعفه أمامه، واستعداده للامتثال لإرادته. إن الهدف الأسمى من هذه الممارسات هو أن يتطهر الإنسان روحيًا، ليكون في حالة من الاستعداد الكامل للتواصل مع السماء، ليصبح قلبه أكثر صفاءً، ونفسه أقرب إلى الله، ساعيًا دومًا لرضاه ومرتبًا علاقته به على أساس من الطهارة الكاملة في كل جوانب حياته.



يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق