الذكاء الاصطناعي هو أعظم اختراع في عصرنا الحالي، ولكنه لم يكن ليوجد لولا بنية تحتية قوية يعمل من خلالها. تخيل أنك تتابع بناء ناطحة سحاب لعدة أشهر أو حتى سنوات، لا ترى سوى حفرة كبيرة في الأرض ولا يبدو أن هناك أي تقدّم، ثم فجأة، يظهر الهيكل الحديدي وترفع الأعمدة وتُبنى الجدران بوقت قصير، فالجزء الذي نراه جميعا يستغرق وقتا أقل بكثير من العمل الذي حصل تحت الأرض، لأنه من دون أساسات عميقة، لن يصمد المبنى.
الأمر مشابه تماما في عالم الذكاء الاصطناعي، فهناك أجزاء أساسية تُبنى في الخلفية على مدار سنوات أو حتى عقود، وهي غير مرئية للمستخدمين، لكنها ضرورية لتعمل منتجات الذكاء الاصطناعي بشكل صحيح.
وبحسب تقرير نشره موقع "بزنس إنسايدر" فإن شركة غوغل تمتلك معظم هذه البنية التحتية، كما أن شركات كبرى مثل مايكروسوفت وميتا وأمازون تمتلك بعضها، أما شركة "أوبن إيه آي" فهي تعمل بوتيرة متسارعة لبنائها، وما زال أمامها طريق طويل لتقطعه، وبالنسبة لشركة آبل فهي تفتقر بشكل كبير لبنية تحتية تُشغل ذكاء اصطناعيا خاصا بها وهو ما يشكل تحديا كبيرا لمستقبلها خاصة فيما يتعلق بهواتف آيفون.
ومن الجدير بالذكر أن هذه المشاكل التقنية قد لا تكون واضحة دائما لأنها تحدث خلف الكواليس، ولكن هذا العام برزت بشكل لافت عندما اضطرت آبل لتأجيل التحديث الكبير لمساعدها الذكي "سيري"، فالشركة تحاول تغيير "سيري" من جذوره ليتماشى مع عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، لكنها لم تكن مستعدة.
ويتطلب إصلاح "سيري" بالشكل المطلوب إنشاء بنية تحتية من الصفر، وإن لم تنجح في ذلك فقد تضطر للاعتماد على شركات أخرى منافسة، أو الدخول في صفقات استحواذ باهظة.
كيف استفادت غوغل من بنيتها التحتية لتطوير الذكاء الاصطناعي؟
تحتاج آبل إلى الكثير من المكونات الأساسية لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، لكن لفهم الصورة بشكل أوضح، يكفي أن نلقي نظرة على ما بنته غوغل خلال العقود الماضية لتكون جاهزة لمواكبة تقدم الذكاء الاصطناعي.
إعلان
على سبيل المثال، أطلقت غوغل مؤخرا أداة "فلو" (Flow) وهي أداة ذكاء اصطناعي توليدي تساعد المبدعين على إنتاج فيديوهات احترافية بسهولة، لكن خلف هذه الأداة البسيطة ظاهريا، هناك بنية تقنية ضخمة ومعقدة طورتها غوغل على مدى سنوات، كما أن نموذج "فيو" (Veo) -المخصص لتوليد الفيديو بالذكاء الاصطناعي، وهو الآن في نسخته الثالثة- لم يكن ليوجد لولا مقاطع فيديو يوتيوب التي تدرب عليها. من يملك يوتيوب؟ نعم، غوغل.
وتملك غوغل أيضا نموذج "جيميناي" روبوت الذكاء الاصطناعي منافس "شات جي بي تي"، بالإضافة إلى نموذج "إميجن" (Imagen) لتوليد الصور وهو في نسخته الرابعة.
ولو بحثنا عن منشأ الذكاء الاصطناعي سنجد أن تقنية لمحول (Transformer) التي ابتكرتها غوغل عام 2017 كانت الحجر الأساس الذي جعل الذكاء الاصطناعي ممكنا، بالإضافة إلى معالجات "تينسور" (Tensor) وهي شرائح متقدمة من غوغل.
ولكن القصة لا تنتهي هنا، فشركة غوغل تمتلك كنزا من البيانات، إذ إنها أرشفت محتويات الإنترنت لعقود، وهي تجمع كميات هائلة من المعلومات من مصادر متعددة، وكل هذه البيانات تُستخدم في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي لتصبح أكثر قوة ودقة.

مؤسس غوغل يكشف عن الذكاء الاصطناعي قبل 25 سنة
في مقابلة أُجريت عام 2000 تحدث لاري بايج المؤسس المشارك لشركة غوغل عن رؤيته للذكاء الاصطناعي، وقال إن "الذكاء الاصطناعي سيكون النسخة النهائية لغوغل، والذي يفهم ما تريد بالضبط ويعطيك الإجابة الصحيحة"، وأضاف أن "الذكاء الاصطناعي سيكون قادرا على الإجابة عن أي سؤال، لأن كل شيء تقريبا موجود على الإنترنت، أليس كذلك؟".
وذكر أن غوغل كانت تمتلك حوالي 6 آلاف حاسوب لتخزين حوالي 100 نسخة من الإنترنت، وقال بايج مبتسما "الكثير من الحوسبة، والكثير من البيانات التي لم تكن متاحة من قبل، ومن وجهة نظر هندسية وعلمية فإن بناء أشياء للاستفادة من هذا يعد تمرينا فكريا مثيرا للاهتمام، لذلك توقعت أن أكون مشغولا بذلك لبعض الوقت".
ويبدو أنه عندما أصبحت غوغل شركة عامة كمزود لمحرك البحث في عام 2004، كانت بالفعل شركة متخصصة في الذكاء الاصطناعي.
وفي عام 2012، حقق الباحثون طفرة كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي عندما دربوا الحواسيب على التعرف على الأشياء وتصنيفها بمجرد "مشاهدتها"، إذ طور أليكس كريزيفسكي وإليا سوتسكيفر وجيفري هينتون -الذي كان مستشارهم في جامعة تورنتو- تقنية "أليكس نت" (AlexNet)، وأسسوا شركة "دي إن إن ريسيرتش" (DNNresearch) التي اشترتها غوغل عام 2013، مكتسبة جميع حقوق الملكية الفكرية بما في ذلك كود المصدر الخاص بها.
وفي عام 2014، اشترت غوغل شركة "ديب مايند" (DeepMind)، وهي مختبر سري للذكاء الاصطناعي يديره ديميس هسابيس ومصطفى سليمان، وهذه الخطوة ألهمت إيلون ماسك لإطلاق شركة الذكاء الاصطناعي "أوبن إيه آي" كقوة مقابلة تنافس غوغل في مجال الذكاء الاصطناعي.
وقد مضى على ذلك أكثر من عقد من الزمن، والآن أصبحت "ديب مايند" بقيادة هسابيس جزءا أساسيا من غوغل، وتقود كثيرا من مشاريع الذكاء الاصطناعي المهمة لديها، بينما يدير سليمان مشاريع الذكاء الاصطناعي الكبيرة في مايكروسوفت.
إعلان
وقبل مؤتمر "غوغل آي/أو" عام 2016، استعانت الشركة بمجموعة من الصحفيين لتعريفهم بمفهوم "تعلم الآلة" -وهو فرع من فروع الذكاء الاصطناعي- وقضى هينتون ورواد الذكاء الاصطناعي الآخرون ساعات وهم يشرحون كيفية عمل هذه التقنية المعقدة، وفي العام ذاته كشفت الشركة عن "تي بي يو" (TPU)، وهي سلسلة من شرائح الذكاء الاصطناعي طورتها داخليا والتي تنافس وحدات معالجة الرسومات من شركة "إنفيديا".
وتستخدم غوغل هذه الشرائح في مراكز بياناتها الخاصة كما تؤجرها لشركات ومطورين آخرين عبر خدمتها السحابية، كما طورت إطار عمل للذكاء الاصطناعي يسمى "تينسورفلو" (TensorFlow) لدعم مطوري تعلم الآلة.
وتُخطط غوغل لإنشاء مراكز بيانات ذكاء اصطناعي بقيمة 75 مليار دولار هذا العام، ولتشغيل كل هذه المراكز أبرمت غوغل مؤخرا صفقات لتطوير 3 محطات نووية لتوفير طاقة كافية تُشغل مراكزها.

وضع آبل صعب
في عام 2018، بدا وكأن جهود شركة آبل في مجال الذكاء الاصطناعي قد بدأت تتجه نحو الطريق الصحيح. ففي بداية ذلك العام، جمع كرايج فيديريجي رئيس قسم البرمجيات في آبل كبار موظفيه وأعلن عن تعيين شخصية بارزة جديدة، حيث استقطبت الشركة جون جياناندريا من غوغل ليكون رئيس قسم الذكاء الاصطناعي لديها، والذي كان يدير مجموعات البحث والذكاء الاصطناعي في غوغل، بحسب تقرير من "بلومبيرغ".
ولكن، رغم ذلك ما زالت شركة آبل تفتقر للعديد من العناصر الأساسية أهمها البنية التحتية، فهي لا تدير العديد من مراكز البيانات الكبيرة، وتستعين بمنشآت غوغل من أجل مشاريع مهمة، فعندما يقوم مستخدمو أجهزة آبل بعمل نسخ احتياطية على "آيكلاود"، غالبا ما تُخزن هذه النسخ في مراكز بيانات غوغل، وفيما يتعلق بتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي من آبل التي تُشغل "آبل إنتلجنس"، فقد طلبت آبل وصولا إضافيا إلى شرائح "تي بي يو" من غوغل لتنفيذ تدريبات للنماذج.
يُذكر أن آبل تمتلك الكثير من البيانات لكنها حذرة في استخدامها لتطوير الذكاء الاصطناعي بسبب مخاوف تتعلق بخصوصية المستخدمين، وقد حاولت معالجة الذكاء الاصطناعي على الأجهزة مثل آيفون، لكن هذه المشاريع تحتاج إلى قوة حوسبة ضخمة لا توفرها إلا مراكز البيانات.
ومن جهة أخرى كانت آبل بطيئة في جذب المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي، فلم تسمح للباحثين بنشر الأوراق البحثية علنا أو فرضت قيودا على ذلك، حيث كان ذلك عنصرا أساسيا في استقطاب المواهب الحيوية على مدار سنوات عديدة.
0 تعليق