ليست الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية مجرد عملية لغوية، بل تتعدى ذلك إلى كونها جسرا ثقافيا يعزز التبادل الفكري، ومن شأنها أن تسهم في نقل الأدب والفكر الجزائري، ومعه العربي، إلى العالم. ومع دعم المترجمين وتوفير التمويل اللازم، يمكن للجزائر أن تحتل مكانة مرموقة بفضل جهود المترجمين والمبدعين.
وإلى جانب المشروع الثقافي، قد تكون الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية ملاذا للناشرين من أجل توفير فضاءات تسويقية جديدة خارج السوق الوطنية التقليدية، لمواجهة تراجع القراءة، ومشاكل التوزيع، وغيرها من العقبات.
وبين هذين الطرحين، تبقى حركة الترجمة الجزائرية، التي اختارت نقل الأعمال من العربية إلى لغات أجنبية، تجربة جديرة بالاهتمام؛ وليست وليدة اليوم.
تجارب سابقة
تعتبر الدكتورة هاجر ذيب أستاذة الترجمة بجامعة عنابة (شرق الجزائر) أن من حق المتتبع لحركة الترجمة في الجزائر أن يتساءل عن جدوى ما يقدمه المترجم الجزائري اليوم لمجتمعه، على غرار ما هو حاصل في المجتمعين العربي والغربي، لا سيما في خضم سياق ما بعد الأزمات والمتغيرات الدولية، بما فيها التطورات الجيوسياسية والإقليمية الحاصلة في المنطقة.
ولكن، قبل الإجابة عن هذا التساؤل، ترى الدكتورة هاجر أنه من الأفضل أولا التحرر بالفكر من عقدة أصحاب الرأي الكلاسيكي الذين يدعون إلى الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، والانفتاح على توجهات أصحاب الرأي الطلائعي الداعمين للأفكار التنويرية، خاصة الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية، لما تلعبه من دور بارز في الوساطة بين الكاتب والمترجم، مثلها مثل باقي اللغات، لكن بطريقة استثنائية تتمثل في حصريتها كلغة، سواء من الناحية الثقافية أو التواصلية، نظرا لغناها بالألفاظ وحمولتها الأيديولوجية التي عادة ما تكون بريئة، وتكون في الآن ذاته سببا في التهجم عليها.

وتذكر الدكتورة هاجر -في مساهمتها للجزيرة نت- أن الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية في الجزائر ليست جديدة، فقد بدأت مع مترجمين كبار كانوا في الأصل أدباء ومفكرين ومثقفين ومناضلين ضد الاستعمار الفرنسي، على غرار الشهيد أحمد رضا حوحو (1910–1956) الذي قدم ترجمات لعدة نصوص أدبية جزائرية من العربية إلى الفرنسية، والمجاهدة جميلة بوباشا التي خصها بيكاسو بلوحته الشهيرة، وقد ترجمت سيرتها الذاتية من العربية إلى الفرنسية، وتناولت فيها تضحياتها في سبيل التحرر من الاحتلال الغاشم والاستبداد الظالم.
إعلان
وتذكر لنا بهذا الصدد كوكبة من المترجمين والكتاب الذين ترجمت أعمالهم إلى لغات أجنبية. ويعد قدور محمصاجي (وإن كان يكتب بالفرنسية) أول جزائري تترجم روايته "صمت الرماد" إلى اللغة الصينية.
ثم يأتي عز الدين ميهوبي الذي أسهم في ترجمة الأدب العربي إلى لغات متعددة من خلال مؤلفاته، ومحمد ساري المعروف في الأوساط الأدبية، ومارسيل بوا (فرنسي الجنسية جزائري النشأة) الذي ترجم رواية "ريح الجنوب" للراحل عبد الحميد بن هدوقة، وغيرهم من المترجمين.
وتضيف الدكتورة هاجر أن ترجمة الجزائريين من العربية إلى غيرها سرعان ما تطورت، ونهض بها جيل جديد، أمثال: الكاتب والباحث إبراهيم تزغارت الذي ترجم الديوان الشعري الثاني للشاعرة السورية مرام المصري "كرزة حمراء على بلاط أبيض" من العربية إلى الأمازيغية، ومحمد بخاري المترجم الجزائري السويسري الذي ترجم إلى الفرنسية رواية "الذروة" للأديبة ربيعة جلطي، وعاشور فني الذي ترجم رواية "الأرواح الشاغرة" لابن هدوقة، والديوان الشعري "معراج السنونو" لأحمد عبد الكريم، والديوان الشعري "اكتشاف العادي" لعمار مرياش إلى الفرنسية. وهناك مترجمون آخرون إلى الفرنسية، أمثال دانيا ومنال بوعبيدي، وغيرهما.
كما تبرز سليمة نقروش التي ترجمت دواوين شعرية إلى الفرنسية والإنجليزية، وبلقاسم مغزوشن الذي ترجم روايات من العربية إلى الإنجليزية، مثل روايتي "الغرباء" و"الضحية" لرابح خدوسي مؤلف "بقرة ليتامى" ورواية "عازب حي المرجان" لربيعة جلطي، ورواية "نساء في الجحيم" لعائشة بنور.
وكذلك علي هارون الذي ترجم من العربية إلى الفرنسية، ولطفي نية الذي ترجم إلى الفرنسية روايتي "يوم رائع للموت" و"الحماقة كما لم يروها أحد" للروائي سمير قسيمي، وسعاد لعبيز التي أبدعت في ترجمة رواية "نازلة دار الأكابر" للكاتبة التونسية أميرة غنيم، ولخضر خلفاوي الذي ترجم بنفسه مجموعته الشعرية "ماجدة" و"الحب حتى الموت" إلى الفرنسية. والقائمة ما تزال طويلة.
ناهيك عن ترجمات المستشرقين الأجانب لأعمال جزائرية مكتوبة بالعربية إلى لغات أجنبية، مثل رواية "زنقة الطليان" للكاتب بومدين بلكبير التي ترجمتها إلى الصينية يوجين ج، وروايته الشهيرة "زوج بغال" التي ترجمت إلى الهندية، ورواية "حينما تشتهيك الحياة" لفضيلة ملهاق التي ترجمت إلى الأوردية المنتشرة في باكستان، إضافة إلى ترجمة بعض روايات الأديب واسيني الأعرج إلى الفارسية، وأمين الزاوي الذي ترجمت له العديد من الأعمال إلى اللغات الأجنبية كالإيطالية والإسبانية، من قبل مترجمين أجانب.

لطيفة مترجمة من الجيل الجديد
لطيفة معوش نموذج لجيل جديد من المترجمين، خاض غمار هذا المجال، واختارت أن تترجم من العربية بعدما اعتادت الأغلبية الترجمة إليها.
وتعد ابنة خنشلة (شرق الجزائر) في جعبتها أكثر من 20 كتابا مترجما من العربية وإليها، من بينها 11 كتابا ترجمتها لطيفة من العربية، وهي:
"محاضرات في مقياس الأدب الشعبي العام" للدكتورة صبرينة بوقفة (إلى الإنجليزية). "حرب الأعصاب من التلاعب بالعقول إلى غسل الأدمغة" للدكتور جمال زاوي (إلى الفرنسية). "مغامرات أمير وأميرة" من أدب الطفل للكاتبة الجزائرية المقيمة في قطر سارة الرشيدي (إلى الفرنسية). رواية "بين ربيع الأمل وخريف المرض" لأمينة بلطرش (إلى الفرنسية). "فاتتني صلاة" للمصري إسلام جمال (إلى الفرنسية). قصة "أرواح فلسطينية بريئة" لفاطمة الزهراء بعدود (إلى الإنجليزية). "الصمت التنظيمي" للدكتورة سميرة قنون (إلى الإنجليزية). "أشواك فوقها ورد" للدكتورة شهرة بوجلال (إلى الإنجليزية والفرنسية). "خذها بقوة" للمهندس المصري حسام عبد العزيز (إلى الإنجليزية). "لكنود" للمصري إسلام جمال (إلى الفرنسية). كتاب "اغرم وان الميزان تغورفيت.. شموخ يتجدد وحضارة لا تنضب" الذي يتطرق فيه المؤلف عثمان بالنقاس إلى قصر بمدينة جانت (جنوب الجزائر) وقد ترجمته لطيفة من العربية إلى الإنجليزية.إعلان
وقد بدأت مترجمتنا رحلتها الأكاديمية في جامعة باتنة (شرق الجزائر) بالتحاقها بأول دفعة في تخصص الترجمة الذي افتتح آنذاك سنة 2006.
وتقول لطيفة للجزيرة نت:
"خلال 4 سنوات، تعلمت المهارات الأساسية في هذا المجال، التي كانت بمثابة الحجر الأساس لمسيرتي المهنية. لم أكتف بذلك، بل دفعني شغفي إلى الانضمام إلى المعهد العالي العربي للترجمة، الذي كان يعد حينها من أرقى المؤسسات المتخصصة في العالم العربي. وهناك، حظيت بفرصة لا تنسى للدراسة تحت إشراف أساتذة مرموقين مثل الدكتورة إنعام بيوض التي زرعت فينا حب الترجمة كفن نبيل، والدكتور نافذ الشماس، والمترجم محمد الخولي، الذين ألهموني بفهم أعمق للغة الإنجليزية وإبداع الترجمة بين العربية والإنجليزية".
وبعد التخرج، خطت لطيفة أولى خطواتها العملية في ترجمة الكتب، مع دار نشر جزائرية، لترجمة مجموعة من المؤلفات إلى العربية. فتقول:
"كان هذا المجال يشكل حلما راودني منذ الصغر، خاصة مع دعم أختي التي حفزتني على المضي قدما. ورغم العقبات التي واجهتها، كالعروض المالية المجحفة واستغلال بعض الناشرين، تمكنت من صقل خبرتي واحترافية عملي".
وتضيف لطيفة أن نطاق عملها توسع لاحقا مع دور نشر مختلفة، لعل أهمها دار "رنيس" الجزائرية التي فتحت لها آفاقا واسعة في مجال الترجمة، خاصة من العربية إلى الإنجليزية:
"هنالك زادت طموحاتي ورغبتي في تقديم الأفضل وبذل مجهود أكبر، وتحسنت نظرتي إلى التعامل مع دور النشر، خاصة وأنني، كما سبق الذكر، تعرضت للاستغلال، شأن الكثير من المترجمين. فقد قدمت لي مبالغ زهيدة جدا نظير ترجمات أسهر عليها ليالي طوالا، وأقضي أياما كثيرة أبحث عن ترجمة كلمة أو عبارة بالطريقة السليمة لغويا وثقافيا".

جائحة كورونا.. نقطة التحول
كانت الظروف الاستثنائية التي فرضها الإغلاق العالمي والحجر الصحي بسبب "جائحة كورونا" نقطة تحول بالنسبة للعديد من الوظائف، بما فيها الترجمة. وقد انعكس ذلك على لطيفة بشكل إيجابي، حيث تؤكد أن عملها شهد حينها ازدهارا ملحوظا، خاصة مع تزايد الطلب على الترجمة إلى الإنجليزية. فتقول:
"أصبحت أكثر انتقائية في اختياراتي، وأحرص على أن تعكس أعمالي أثرا يبقى للأجيال القادمة. من خلال تعاملي مع دور نشر ومؤلفين، أسهمت في ترجمة كتب ذات قيمة أدبية وعلمية، حققت انتشارا على منصات عالمية مثل أمازون وواتباد، وهو ما عزز رغبتي في تقديم النصوص الجزائرية للعالم".
وتضيف: لكن التحدي تجدد، فقد انتشرت الإنجليزية في الجزائر مؤخرا، واتجه الناس إلى القراءة بها بعد أن كانت الفرنسية هي المسيطرة لفترة طويلة. وحينها، تساءلت لطيفة: ما المميز الذي قد يقدمه الكاتب الجزائري بالإنجليزية؟ وجاءها الجواب حين اشتغلت على ترجمة كتاب في التراث الشعبي عنوانه "محاضرات في مقياس الأدب الشعبي العام" للدكتورة بوقفة. فتقول المترجمة:
"استنزف هذا الكتاب طاقتي بالكامل، إذ تطلب نقل الأمثال الشعبية الجزائرية إلى الإنجليزية بحثا مكثفا لضمان ترجمة دقيقة تحافظ على الروح الثقافية لهذه الأمثال، سواء عبر شرحها أو ترجمتها بأساليب الترجمة المعروفة، من اقتراض، ونحت، وتطويع. فاكتشفت إثر ذلك أننا نستطيع أن ندخل هذا العالم من بابه الأوسع، لأن لدينا الكثير لنقدمه".

ما قد تضيفه العربية لغيرها
وإذا كانت لطيفة معوش قد تساءلت عن الذي يمكن للعربية أن تضيفه إلى اللغات الأخرى، فإن الحديث عن الترجمة من العربية إلى غيرها يدفعنا إلى أن نتساءل بدورنا: هل تسهم هذه الترجمة في ترقية العربية؟ وكيف؟
إعلان
وفي هذا الصدد، يرى الأستاذ الدكتور نوار عبيدي رئيس لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للعربية بالجزائر أن الترجمة من العربية إلى غيرها من اللغات تسهم بقوة في ترقية العربية، ولا تنقص منها شيئا. فيقول متسائلا "وهل نقص شيء من اللغة الإنجليزية وكل العالم يترجم منها؟". ويجيب "على العكس تماما، فالترجمة من الإنجليزية هي التي أوصلتها إلى العالمية".
ويضيف -في حديثه للجزيرة نت- أن العربية قد عاشت في تاريخها الطويل حالة مماثلة، حين ترجمت علومها إلى اللغات اللاتينية والهندو أوروبية، مما مكن الحضارة العربية الإسلامية من الاتساع والبقاء على رأس الأمم ردحا من الزمن.
ووفقا لعبيدي، يمكن حصر ترقية العربية من خلال الترجمة منها في أمرين مهمين:
أولا: تعريف العالم بخصائص العربية وقدرتها على استيعاب جميع اللغات وعلومها. ثانيا: نقل الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة الراقية إلى العالم.وفي المقابل، يلاحظ البروفيسور نوار عبيدي أنه وعلى الرغم من وجود العديد من الأعمال المترجمة من العربية إلى لغات أجنبية، خصوصا في مجالي الأدب والفن، فإنها تبقى قليلة ومتواضعة مقارنة بما يترجم من اللغات الأخرى.
ومن جهتها، ترى الدكتورة هاجر أن الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية يمكن أن تضيف الكثير للعربية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وتجمل ذلك في النقاط الآتية:
تعزيز تعلم العربية، لأن الترجمة تصبح وسيلة لتعلم العربية بشكل أفضل من خلال التعرف على اللغات الأخرى، مما يسهم بيسر في تعلم قواعد وأساسيات اللغة. تعزيز الفكر العربي لدى المتلقي الغربي وتصحيح المفاهيم الاجتماعية والدينية والثقافية والأيديولوجية. كسر الصور النمطية السائدة عن العرب وثقافاتهم الدينية مما يسهم في التبادل الإيجابي في نواح عدة اقتصادية وسياحية. تحفيز الإنتاج الأدبي والعلمي وتعزيز مقروئية العربية في الدول الغربية، والحفاظ على التراث العربي ونقله للأجيال القادمة. تعزيز المثاقفة من خلال تبادل الأفكار ونقل المفاهيم والثقافات والمعارف. توفير حماية قانونية لحقوق الملكية الفكرية للمؤلفين العرب عن طريق الترجمة إلى اللغات الأجنبية.
وللناشر "حسابات" أخرى
مما سبق، يتضح جليا أن لهذا الاتجاه في الترجمة فوائد ثقافية وحضارية كبيرة، غير أن الناشرين قد ينظرون إلى مسألة الترجمة من العربية إلى غيرها من اللغات من زاوية أخرى، تركز أكثر على الجوانب التجارية والاعتبارات الاقتصادية.
وفي هذا السياق، يتحدث رابح محمودي صاحب دار قرطبة للنشر، عن "أزمة الترجمة لدى دور النشر الجزائرية".
ويؤكد محمودي للجزيرة نت أن مشروع الترجمة، عموما، هو مشروع ثقافي بالدرجة الأولى، أي أنه يحمل في طياته شغفا داخليا يدفع صاحبه إلى تجسيده على أرض الواقع. ولهذا، تصبح مهمة الترجمة محملة بهم ثقافي يسعى إلى نقل واقع حضاري من أمة إلى أخرى.
ويقول أيضا "لكن هذا الشغف سرعان ما تنطفئ شمعته إذا اعترضته معوقات تحول دون وصول المشروع إلى غاياته المرتجاة".
ويضيف "ولعل قصة الترجمة مع دور النشر الجزائرية ليست بعيدة عن هذا الواقع الذي نحاول أن نتطرق إليه من هذه الزاوية الثقافية والاقتصادية، فكل دور النشر الجزائرية يحدوها هذا الهم الثقافي الذي أشرنا إليه في بداية حديثنا، ومنها دار قرطبة.
غير أن وجود الهم والاهتمام بموضوع الترجمة لا يكفي لتجسيد المشروع على أرض الواقع، فلابد من أخذ الواقع الثقافي بعين الاعتبار، وخاصة تدني نسبة المقروئية بشكل مخيف، وطغيان النزعة المادية لدى الإنسان العربي (ومنهم الإنسان الجزائري) وهي نزعة سببت مآسي كثيرة، ليس هذا موضع التطرق إليها.
ويشير محمودي إلى "مفارقة غريبة" عاشها المجتمع الجزائري قبل حوالي عقدين من الزمن، وهي انتشار الهاتف النقال، وهو أمر طبيعي في حد ذاته -كما يقول- لكن الغريب في الأمر هو: كيف أصبح الفرد ينفق على هاتفه، في المتوسط، ألف دينار جزائري شهريا، بينما لا ينفق نصف هذا المبلغ على عقله باقتناء كتاب شهريا؟
ويختم صاحب دار قرطبة متسائلا "إن هذه المفارقة تدفعنا إلى طرح الإشكالية التالية: كيف يمكن للناشر أن يغامر ويقوم بترجمة أي كتاب وسوق الكتاب كاسدة؟ وأي شغف ثقافي يدفعه إلى المجازفة في واقع ثقافي يتسم بالقحط الفكري والإبداعي؟".

0 تعليق