أعادت التصريحات والأفعال الأخيرة لرئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وحكومته اليمينية، تسليط الضوء على عقيدة "إسرائيل الكبرى" المتطرفة.
هذه العقيدة، التي يعتبرها كثيرون المحرك الحقيقي لسياسات حكومته، ليست مجرد شعارات سياسية ظرفية، بل هي فكرة ذات جذور تاريخية ودينية وسياسية عميقة، تمتد من نصوص توراتية إلى مخططات المؤتمر الصهيوني الأول، وتترجم اليوم عبر سياسات الضم والاستيطان الممنهج.
1. الجذور الدينية: "أرض الميعاد" كعقيدة جغرافية
تستند فكرة "إسرائيل الكبرى" في جوهرها الديني إلى مفهوم "أرض الميعاد" (إيرتس يسرائيل) كما ورد في أسفار التوراة.
فالنص التوراتي المحوري في سفر التكوين (15:18) يحدد وعد الرب لإبراهيم بحدود جغرافية تمتد "من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات".
وقد شكل هذا النص، إلى جانب نصوص أخرى، أساساً لاهوتياً للتيارات الصهيونية الدينية المتطرفة التي ترى أن حدود "دولة إسرائيل" الحقيقية يجب أن تشمل هذه الأراضي، وأن أي تنازل عنها هو مخالفة للإرادة الإلهية.
2. التأسيس السياسي: من "بازل" إلى "الجدار الحديدي"
سياسياً، بدأت ملامح المشروع تتضح مع المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل بسويسرا عام 1897 بقيادة ثيودور هرتزل.
ورغم أن "برنامج بازل" استخدم لغة دبلوماسية حذرة، متحدثاً عن إنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام"، إلا أن التيارات الأكثر تطرفاً داخل الحركة الصهيونية كانت تتطلع إلى حدود أوسع وسيادة كاملة.
وقد تبلورت هذه الرؤية بشكل واضح مع ظهور تيار "الصهيونية التصحيحية" بقيادة زئيف جابوتنسكي، الذي أسس لاحقاً حركة "حيروت"، والتي انبثق عنها حزب "الليكود".
كانت عقيدة هذا التيار تقوم على أساس أن "حق" اليهود يشمل كامل أرض فلسطين الانتدابية على ضفتي نهر الأردن. وطرح جابوتنسكي في مقالته الشهيرة "الجدار الحديدي" (1923) فكرة أن التسوية السلمية مع العرب مستحيلة، وأنه يجب إقامة قوة يهودية عسكرية ساحقة ("جدار حديدي") لا يمكن للعرب اختراقها، مما يجبرهم في النهاية على قبول السيادة اليهودية على كامل الأرض.
3. حزب الليكود: ترجمة العقيدة إلى برنامج سياسي
ورث حزب الليكود، الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، هذه الأيديولوجية بشكل مباشر.
وقد نص البرنامج الأصلي لحزب الليكود عام 1977 صراحة على أن:
"حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل هو حق أبدي وغير قابل للجدل".
"بين البحر والنهر، لن تكون هناك سوى سيادة إسرائيلية واحدة".
رفض الحزب بشكل قاطع إقامة دولة فلسطينية غرب نهر الأردن.
وعلى الرغم من أن اتفاقيات السلام اللاحقة دفعت الحزب إلى تعديل خطابه العلني، إلا أن هذه العقيدة بقيت المحرك الأساسي لتياره اليميني.
4. نتنياهو: تجسيد العقيدة في السياسة المعاصرة
تعتبر سياسات نتنياهو، خاصة في عهد حكومته الحالية، الترجمة العملية لهذه الأيديولوجية على الأرض، وتتجلى في عدة مظاهر موثقة:
خريطة الأمم المتحدة (2023): في خطوة رمزية بالغة الدلالة، عرض نتنياهو خلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023 خريطة لـ "الشرق الأوسط الجديد"، ظهرت فيها "إسرائيل" وهي تضم كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، مع محو كامل للوجود الفلسطيني.
رفض الدولة الفلسطينية: كانت تصريحاته المتكررة، وآخرها خلال الحرب على غزة، برفضه القاطع لقيام دولة فلسطينية، وتأكيده على ضرورة احتفاظ "إسرائيل" بالسيطرة الأمنية الكاملة على المنطقة الواقعة "بين النهر والبحر"، بمثابة تبنٍ صريح لمبادئ الصهيونية التصحيحية.
التوسع الاستيطاني: يعتبر الدعم غير المسبوق للتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، والذي يقوده وزراء متطرفون في حكومته مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، هو التطبيق الفعلي لهذه الأيديولوجية، بهدف خلق واقع جديد على الأرض يجعل من قيام دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً.
خلاصة:
إن ما يطرحه نتنياهو اليوم ليس مجرد مواقف سياسية وليدة اللحظة تمليها ضرورات الحرب، بل هو تعبير واضح وموثق عن عقيدة سياسية ودينية متجذرة في فكر الصهيونية العالمية وحزب الليكود.
هذه العقيدة لا ترى في الفلسطينيين شركاء سلام، بل عقبة ديموغرافية وجغرافية أمام تحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى"، وهو ما يفسر سياسات الضم والتوسع ورفض أي حل سعياسي قائم لى أساس الدولتين الذي يدعمه المجتمع الدولي.
0 تعليق