أمام غرفة عيادة الأورام داخل مجمع ناصر الطبي، تجمّع عشرات المرضى بانتظار الدخول للطبيب المعالج، وكان بينهم سيدة يبدو عليها ملامح الشحوب والتعب والهزال، وآثار العلاج الكيميائي، ذهبت إليها للتعرف على طبيعة مرضها.
بمجرد سؤالها عن حالها، انفجرت السيدة أمل الجد (32 عاما) بالبكاء وهي تصف إصابتها بورم خبيث في غمد العصب المحيطي، وغياب العلاج والعناية الطبية، والغذاء الصحي داخل قطاع غزة لمرضى السرطان.
في شهر أبريل/نيسان 2024، جاء المخاض للسيدة أمل ورزقت بطفلة، وبعدها ولمدة عام كامل بدأت تشكو من آلام شديدة في أسفل الجهة اليسرى من جسدها ولم ينجح الأطباء خلال تلك الفترة من تشخيصها بشكل دقيق بسبب غياب المعدات الطبية، وتعرضها للنزوح أكثر من 6 مرات، وعدم توفر مستشفى متخصص في قطاع غزة لمرضى السرطان، بعد تدمير جيش الاحتلال الإسرائيلي لمستشفى الصداقة التركي "مركز غزة للسرطان"، وخروجه عن الخدمة منذ الأيام الأولى للحرب.
بعد التشخيص المتأخر لحالة أمل، دخلت في أتون معركة جديدة للبحث عن العلاج في مدينة تتعرض لأشرس حرب عرفها التاريخ الحديث، أحد أهم أهدافها المنظومة الصحية والمستشفيات.
بكثير من الحسرة تقول أمل لـ"الجزيرة نت": "رزقت بطفلتي الأولى بعملية قيصرية وكانت فرحتنا كبيرة بهذه المولودة لكن اكتشاف المرض سرق الفرحة، ونال من جسدي، وانعكس على الحالة الصحية والنفسية لابنتي".
تضيف أمل "بعد الاكتشاف المتأخر لإصابتي بالسرطان بدأت البحث عن الأطباء المتخصصين وكانت وجهتي الأولى مستشفى غزة الأوروبي، ولكن بعد اقتحام جيش الاحتلال له في مايو/أيار 2025، توقفت الخدمة المقدمة لنا على قلتها لفترة من الزمن".
خلال فترة انقطاع العناية الطبية لمرضى السرطان بعد خروج مستشفى غزة الأوروبي عن الخدمة، تفاقمت الحالة الصحية لأمل، وبدأت حالتها الصحية تتراجع، لتظهر عليها ملامح الهزال، وعدم القدرة على الحركة.
إعلان
بعد الانقطاع عن العلاج، انتقلت أمل لمتابعة حالتها داخل مجمع ناصر، لكن لتكدس المرضى في المستشفى الوحيد، وقلة عدد الأطباء، لم تتوفر لها الرعاية المطلوبة لمريض السرطان.
إلى جانب كل ذلك، لم تجد أمل أيا من الأصناف التي أوصى الأطباء بتناولها بسبب المجاعة التي تضرب قطاع غزة، ما تسبب في مزيد من تدهور حالتها الصحية.
استئصال للكلى
ذات المعاناة التي عايشتها أمل من مرضى السرطان، كان لرائد حماد وجه آخر منها أشد قسوة بفعل استئصال الأطباء الكامل لكليته اليمنى المصابة بالسرطان منذ عام 2016، وعدم شفائه من المرض رغم ذلك.
جاءت الحرب وحماد (51 عاما) لا يزال يعاني من مرض السرطان، ليزيد من سوء حالته الصحية لعدم توفر العلاج والنظام الغذائي اللازم لمرضه.
يقول حماد لـ"الجزيرة نت": "تم وضع نظام غذائي من قبل الأطباء يتناسب مع حالتي منها تناول الخضروات بكثرة ولكن الحرب ونقص المواد الغذائية تسبب في تدهور صحتي مع تراجع في الوزن وتعب وإرهاق وآلام في المفاصل خاصة مع غياب الطعام والنزوح المتكرر واستهداف المنظومة الصحية في قطاع غزة".
أجرى الأطباء لحماد تحويلة طبية لاستكمال علاجه خارج قطاع غزة، عبر منظمة الصحة العالمية، لكنه ينتظر ورود اسمه على قوائم السفر الطويلة والوحيدة عبر معبر كرم أبو سالم.
وتعكف المنظمة الأممية على إجلاء فئات من المرضى من ذوي الحالات المستعصية ومنهم مصابو مرضى السرطان بشكل محدود.

خيبة أمل
داخل خيمة من النايلون في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، تكابد مريضة سرطان الثدي فايزة أبو صبحة، آلامها الشديدة لعدم توفر العلاج والرعاية الصحية، إضافة إلى نظام غذائي متكامل يساعدها على تجاوز أيام المرض الثقيلة.
بعد 8 أشهر من شكوى الستينية فايزة وجود ندبة صغيرة في الثدي اكتشف الأطباء أنه ورم سرطاني يستلزم استئصال الجزء المصاب فقط، لكن غياب الأجهزة الطبية الخاصة بمرضى السرطان، استدعى استئصال الثدي بكامله.
خضعت فايزة كما تروي لـ"الجزيرة نت" لعملية استئصال كاملة للثدي على أمل القضاء على تفشي السرطان في جسدها داخل مستشفى غزة الأوروبي، ولكن النتائج لم تأت كما أراد الأطباء لها.
تقول أبو صبحة "بعد الاستئصال مازال السرطان في جسدي، ولا أمل في الشفاء التام طالما بقيت في قطاع غزة، حيث لا غذاء، أو رعاية صحية، أو مكان ملائم للعيش والنوم".
أوضاع كارثية
أكد رئيس اللجنة الطبية العليا لطب الأورام في قطاع غزة الدكتور زكي الزقزوق، أن الوضع الصحي لمرضى السرطان في القطاع بات سيئا للغاية، ووصل إلى مستوى لم يشهده منذ عقود بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة.
وقال الزقزوق -استشاري أمراض الأورام- لـ"الجزيرة نت": "مريض السرطان يجب أن يتلقى علاجه في الوقت المناسب، لكن عددا كبيرا من المرضى في قطاع غزة لم يتمكنوا من الحصول على العلاج، ما أدى إلى وفاة الكثير منهم، بفعل النزوح المستمر منذ أكثر من عام ونصف، وفقدان الرعاية الطبية، إضافة إلى الإخلاءات المتكررة، ما فاقم من معاناتهم".
إعلان
وبيّن أنه بعد خروج "مركز غزة للسرطان" عن الخدمة بفعل اقتحامه وتدميره من قبل جيش الاحتلال، قامت وزارة الصحة بإنشاء قسم أورام في مستشفى غزة الأوروبي، إلا أن إخلاء المستشفى الأوروبي دفعهم لإنشاء قسم آخر في مجمع ناصر الطبي، لكنه متواضع للغاية بسبب غياب المعدات والأسرة.
وبحسب الزقزوق فإن مريض السرطان بحاجة إلى رعاية خاصة تشمل العناية المركزة، والمضادات الحيوية، والعلاج الكيميائي، والإشعاعي، والبيولوجي، لكن غياب هذه الخدمات أدى إلى فقدان حياة العديد منهم.
وحول الأعداد، بيّن الزقزوق أن ما يقرب من 12 ألف مريض سرطان في قطاع غزة لا يتوفر لهم العلاج المطلوب، مع زيادة ملحوظة في أعداد الإصابات خلال الحرب، حيث يتم تشخيص الكثير منهم في مراحل متأخرة جدا، بينما لا يتمكن آخرون من اكتشاف إصابتهم بسبب غياب وسائل التشخيص.
وأضاف أن مرضى السرطان بحاجة إلى غذاء صحي ومتوازن، يشمل الحليب والفواكه والخضراوات والهواء النقي، لكن هذه المتطلبات الأساسية غائبة في قطاع غزة منذ قرابة عام ونصف، وهو ما يفاقم تدهور حالتهم، خاصة أن العلاج الكيمائي يضعف مناعتهم.

وقال إنه لا توجد إحصاءات دقيقة بسبب الوضع الراهن الذي تعاني منه وزارة الصحة، لكن من المؤكد أن الوفيات ارتفعت نتيجة نقص العلاج، مشيرا إلى نجاحهم قبل الحرب في علاج بعض الحالات مثل سرطان الثدي.
وكشف الطبيب الفلسطيني أن أكثر السرطانات شيوعا في القطاع هي سرطان الثدي، القولون، الرئة، والبروستاتا، إضافة إلى زيادة ملحوظة في تسجيل حالات سرطان الأنف البلعومي وسرطانات العقد اللمفاوية خلال الحرب.
وشدد على ضرورة إرسال قوافل طبية متكاملة من أجل إنقاذ مرضى السرطان في غزة الذين يستغيثون طلبا للعلاج، وإدخال المعدات اللازمة للتشخيص، ووضع آلية لدعم مباشر للعلاج الكيمائي بجميع أنواعه.
انتكاسات خطيرة
بدوره، أكد مدير الإغاثة الطبية في قطاع غزة، بسام زقوت، أن واقع مرضى السرطان في القطاع صعب جدا، خاصة بعد خروج مستشفى غزة الأوروبي و"مركز غزة للسرطان" عن الخدمة، مشيرا إلى أن أعداد المرضى تتجاوز 12 ألف مريض، يتلقى بعضهم العلاج في مستشفى الحلو شمال القطاع.
وأوضح زقوت في حديثه لـ"الجزيرة نت" أن الإمكانيات الطبية المتاحة غير كافية بسبب عدم سماح الاحتلال بدخول الأدوية الأساسية، موضحا أن بعض المرضى تعرضوا لانتكاسات خطيرة في حالتهم الصحية نتيجة توقف جرعات العلاج الكيمائي.
وأضاف أن متابعة المرضى تتم من قِبل ما تبقى من الأطباء المتخصصين، لكنّ هناك نقصا حادا في الكوادر الطبية.
وقال إن شريحة كبيرة من هؤلاء المرضى تحتاج للعلاج خارج قطاع غزة، إلا أن الاحتلال يمنع سفرهم، مما أدى إلى وفاة عدد منهم، بينما يعاني آخرون من تدهور مستمر في حالتهم الصحية.
ولفت إلى أن المجاعة أثرت بشكل بالغ على مرضى السرطان الذين يعانون أساسا من ضعف المناعة، إذ يحتاجون إلى بروتينات وعناية خاصة غير متوفرة حاليا، مشيرا إلى أن نسبة كبيرة منهم تعاني من فقر الدم، وضعف عام، وشحوب، وهزال، بسبب عدم حصولهم على الغذاء المناسب.
وذكر أن المعاناة في قطاع غزة طالت جميع الفئات، مضيفا أن الدعم النفسي للمرضى غير متوفر بالشكل المطلوب، إذ تقتصر الجهود الحالية على بعض الجلسات المحدودة التي لا تكفي، مؤكدا على ضرورة وضع برامج شاملة لتقديم الدعم النفسي الكامل لمرضى السرطان.
تدمير ممنهج
من جانبه، أكد أمجد الشوا نائب مفوض عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ومدير شبكة المنظمات الأهلية، أن الاحتلال الإسرائيلي دمر بشكل ممنهج منظومة حقوق الإنسان، وانتهك بشكل صارخ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، من خلال استهدافه المباشر للقطاع الصحي ومنع دخول الأدوية والطواقم الطبية إلى قطاع غزة.
إعلان
وقال الشوا في حديث لـ"الجزيرة نت": إن "المرضى في غزة يحرمون من حقهم الأساسي في تلقي العلاج، في ظل خروج معظم المستشفيات عن الخدمة، وكان آخرها مستشفى الصداقة التركي (مركز غزة للسرطان) الذي تعرض للتدمير الكامل، ما فاقم معاناة المرضى، وأدى إلى وفاة العديد منهم يوميا بسبب نقص الرعاية الصحية".
وأشار إلى أن حرمان المدنيين من العلاج يعد جريمة ضد الإنسانية، ويعكس مستوى الانهيار الأخلاقي للمجتمع الدولي بصمته عن هذه الانتهاكات المتواصلات.
وبين أن الواقع الصحي في غزة يمثل كارثة إنسانية بكل المقاييس، ويشكل جريمة مكتملة الأركان بحق المرضى الذين أصبحوا في حكم المحكومين بالإعدام نتيجة الحصار ومنع الإخلاء الطبي.
وشدد على ان الأطراف الدولية مطالبة بتحمل مسؤولياتها القانونية والإنسانية عبر التحرك الفوري لتأمين الإخلاء الطبي العاجل للمرضى، وتوفير مساحات آمنة لعلاجهم، وضمان إدخال الأجهزة والمعدات الطبية الضرورية.
واعتبر أن حرمان المدنيين من العلاج يعد جريمة ضد الإنسانية، ويعكس مستوى الانهيار الأخلاقي للمجتمع الدولي بصمته عن هذه الانتهاكات المتواصلة.
0 تعليق