عاجل

الموسيقى.. ذراع المقاومة الإريترية وحنجرة الثورة - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

في قلب النضال الطويل الذي خاضه الشعب الإريتري واستمر 30 عاما من أجل الاستقلال عن إثيوبيا (1961-1991) لم تكن البنادق وحدها التي صنعت الفرق، بل كانت هناك قوة ناعمة لا تقل تأثيرا. إذ لعبت الموسيقى الإريترية دورا محوريا في تشكيل الهوية الوطنية، وتحفيز المقاومة، وتعزيز روح الصمود خلال الثورة، كأداة حيوية للتوعية السياسية، والتماسك الاجتماعي، والصمود العاطفي.

لقد كان للموسيقى دور أساسي في العمل التعبوي لجبهة التحرير الإريترية وغيرها من الحركات الثورية. فقد استُخدمت في التجنيد، وبناء المعنويات، والتثقيف. وعكست كلمات الأغاني الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وعبّرت عن تطلعات الشعب، وساعدت على تشكيل شعور مشترك بالهدف. وفي المعسكرات وعلى جبهات القتال، كانت الأغاني مصدرا للراحة والتحفيز، وتعزز الإيمان بالتحرر القادم.

أفريقيا الستينيات ورياح التحرر

شهدت القارة الأفريقية خلال ستينيات القرن الـ20 موجة واسعة من حركات التحرر الوطني، برز خلالها قادة تاريخيون مثل جمال عبد الناصر، وكوامي نكروما، وأحمد سيكوتوري، الذين وقفوا في الصفوف الأمامية لمقارعة الاستعمار.

ومن بين تلك الحركات، برزت جبهة التحرير الإريترية التي تأسست أواخر عام 1958 لمقاومة الاحتلال الإثيوبي لإريتريا، حيث بادر عدد من هؤلاء المهاجرين إلى تأسيس تنظيم ثوري باسم حركة التحرير الإريترية، في مدينة بورتسودان السودانية لتبدأ خلاياه السرية بالتمدد تدريجيا في مختلف المدن الإريترية.

وشهدت عام 1960 قيام أول تحالف شعبي بين العمال والطلبة، ثم أطلق بعدها القائد حامد إدريس عواتي في الأول من سبتمبر/أيلول 1961، شرارة الانتفاضة المسلحة برفقة مجموعة صغيرة من المقاتلين مكرسة مسار النضال لتحقيق الاستقلال عن إثيوبيا.

الذراع الثقافية لجبهة التحرير الإريترية

وفي ضوء عزلة الجبهة نسبيا عن الشعب، خاصة من هم في مخيمات اللاجئين في السودان، بالرغم من توسعها العسكري في أوائل السبعينيات، اقترحت مجموعة من الفنانين الإرتريين، بعضهم عمل في فرق مسرحية أو غنائية في الخرطوم وكسلا، تكوين فرقة فنية تجوب مناطق اللجوء ومواقع المقاتلين.

إعلان

ورحّبت قيادة الجبهة بالفكرة، ووفرت لهم أدوات موسيقية مع تجهيزات مسرحية، مما ساهم في نجاح الفرقة في تقديم عروض فنية شملت أغاني وطنية قصيرة ومسرحية تحاكي فساد الإدارة الإثيوبية.

على إثر ذلك تأسست الفرقة الفنية لجبهة التحرير الإريترية عام 1974 وهدفها الأول رفع الروح المعنوية للمقاتلين ونشر الوعي الوطني بين الإريتريين عبر الأغاني والمسرحيات.

وانتشرت أخبار الفرقة كما النار في الهشيم، وأصبحت في فترة قصيرة تجوب جبهات القتال المختلفة ترافق الوحدات العسكرية وتقوم بجولات لمخيمات اللاجئين في السودان لربط الشتات الإريتري بالقضية.

وكان أبرز أعضاء الفرقة من المغنيين عثمان عبد الرحمن، وحسن عثمان، وتسفاي منغشا، وعثمان محمد نور وحجي محمد سعيد، ومن المسرحيين الممثل جمعة عبد الله، الذي ألف مسرحيات قصيرة تسخر من الاحتلال الإثيوبي وتبرز معاناة الشعب الإريتري وصموده.

الأغاني الثورية "رصاصات ثقافية"

استخدم الفنانون الإريتريون موسيقاهم ومسرحياتهم كرصاص ثقافي ووسيلة للمقاومة وإثبات للهوية الوطنية في مواجهة محاولات الطمس الثقافي والقمع السياسي.

وحملت الأغاني رسائل مشفرة مضمونها التحدي والأمل والوحدة، وغالبا ما كانت تتخفى في شكل أغانٍ شعبية تقليدية لتفادي الرقابة الإثيوبية والهام الوعي الجماعي والتمسك بالحلم الوطني.

يقول الشاعر والمناضل الإريتري محمد محمود الشيخ "محمد مدني" للجزيرة نت "قد يظن كثيرون أن الأغاني والأناشيد الوطنية في إريتريا، ظهرت بعد تأسيس الفرقة الفنية لجبهة التحرير الإريترية، غير أن جيل الرواد من الفنانين الإريتريين، قدموا أغنيات عديدة انتشرت كأغانٍ عاطفية، بينما التقط الجميع رمزيتها البسيطة والسهلة، بما في ذلك عناصر الأمن الإثيوبي الذين استطاعوا فك شفرتها وفهمها".

وأضاف أن الفنان الأمين عبد اللطيف غنى "فاطمة زهرة" بلغة "التقرايت" والتي من كلماتها:

 ابنة كرن وأسمرا
إن رأيتموها في منطقة زارا
بلغوها تحياتي فاطمة الزهراء.

ويضيف "تغنى أيضا الفنان تولدي ردا بأغنية "أعطوني شُعلتي"، ويكفي اسم الأغنية لمعرفة ما ترمز إليه. أما يماني باريا فقد اتخذ من الثغور مدخلا ليغني للوطن، فكانت أغنيته الخالدة "ودبات عَدَّي" أي "موانئ بلادي"، في إشارة واضحة لإريتريا، باعتبار أن إثيوبيا لا تملك منفذا للبحر".

يستطرد مدني "على مستوى آخر، كان للمواطنين -النساء في الأغلب- في الأرياف والمُدن، دورٌ لا يُستهان به في دفع الشباب للالتحاق بالثورة، من خلال الأغنيات والأهازيج وهي في معظم الأحيان مجهولة المؤلف ولكن أغلبها كان يتدثر بألحان شعبية وتراثية متداولة في المنخفضات والمرتفعات الوسطى حيث كان الوجود ذو التأثير لمقاتلي جيش التحرير. كما انتشرت أيضا، أغنيات وأهازيج تتغنى ببطولات المقاتلين الأوائل وهو أسلوب معروف في تلك المناطق لتحفيز الآخرين وإثارة همتهم، للتسابق نحو التضحية".

ويختتم مدني حول الموسيقى الإريترية والموسيقيين "الفنان، الشاعر، المسرحي والموسيقي رمضان قبري، نقوسي منسعاي، يماني يوهنس وبالطبع تولدي ردَّا، حسين محمد علي، برخت منقستآب، أبرار عثمان، يماني باريا ورمضان حاج. ولا ننسى من العازفين كفلوم ودي فانا، تولدي قرزقهير، فؤاد عبده، قرقيس قلاتا وآخرين".

إعلان

ويقول مدني "أحدث المذكورون، بالتنسيق مع الشعراء، نقلة نوعية في الأغنية بدأت بالالتفات إلى دور الإيقاعات والألحان الشعبية -من مختلف المجتمعات الإرترية- واستلهام وتضمين الأشعار والألحان الحماسية، في أغنيات الفرقة، بالإضافة إلى توظيف المارش كإيقاع ذي طبيعة عسكرية، وواضح أن له تأثيره في المقاتلين، بينما لعبت الأغنيات والأناشيد الأخرى، الدور الأكثر فعالية في استقطاب الشباب، من الجنسين، بالآلاف للالتحاق بالثورة".

أشهر المقامات الموسيقية وخصوصيتها

السلم الموسيقي المستخدم في الموسيقى الإريترية يختلف باختلاف المجموعات العرقية والأنماط الموسيقية داخل البلاد، لكن ينتمي إلى ما يعرف بالسلم الخماسي كما هو الحال في العديد من دول شرق أفريقيا وخاصة إثيوبيا والسودان.

ويتكوّن المقام الخماسي من 5 نغمات تستبعد أنصاف الدرجات في المقام الكبير (دو ري مي صول لا)، على عكس المقام السباعي الغربي (دو ري مي فا صول لا سي)، يُستخدم النظام النغمي الخماسي على نطاق واسع، خاصة في موسيقى التيغرينجا، وهي إحدى أكبر المجموعات العرقية في إريتريا.

أشهر السلالم ذات الخصوصية الثقافية في المقام الخماسي في إريتريا، سلم التيزيتا (دو ري فا صول لا) وهو أشبه بالمقام الصغير "الماينور" في النظام الموسيقي الغربي ويماثل البلوز وطابعه حزين وعاطفي.

والسلم الآخر هو الباتي (دو ري فا صول لا دييز) وطابعه ديني واحتفالي ويعطي شعورا بالحدة والتوتر قليلا وبه نوعان كبير "أمباسيل" وصغير "أنشوه". كثير من الأغاني الإريترية تستخدم التكرار النغمي داخل اللحن عوضا عن الهارموني الغربي، مما يعطيها طابعا شرق أفريقيا أو حتى عربيا في بعض الأحيان.

أشهر الآلات الموسيقية التقليدية "الكرار" وهو نوع من الآلات الوترية شبيه بالمزهر "العود العربي"، "الوانتا" آلة وترية وأخيرا الطبل التقليدي. هذه الآلات ولتقليديتها لا تلتزم درجات الضبط الموسيقي وفق المقام الخماسي لأن ما يخرج منها من نغمات غير مقيد بدرجات الضبط العالمية.

"أبرهيت برهان" رائدة الموسيقى الإريترية، تعزف على آلة "الكرار" (مواقع التواصل الاجتماعي)

الفن الإريتري والسرديات الاستعمارية

يقول الباحث إبراهيم إدريس، مدير دار أدال للدراسات والثقافة والنشر، عن تأثير السرديات الإيطالية والبريطانية والإثيوبية على الفنانيين الإريتريين "في تقديري لا يمكن الحديث عن تطور الموسيقى في إريتريا بمعزل عن فهم التاريخ الاجتماعي والسياسي وأيضا الاقتصادي.

وأضاف إدريس "ضمن هذا المدخل نجد أن دور الإيطاليين بالرغم من سلوكهم العنصري تميز في تدريب واستيعاب بعض الموسيقين لتعلم الآلات الحديثة مثل الجيتار والدرمز والساكسفون بجانب صالات تسجيل الأغاني والأستوديوهات ودورهم في تنظيم العمل الموسيقي والمسرحي بجانب تأسيس الفرق الفنية التي ساهمت بدورها باستيعاب الفنانين الإريتريين".

ويشير الباحث إلى مساهمة تلك التفاعلات في تأسيس "جمعية أسمرا للمسرح" المعروفة "بماتأ " في عام 1975-1961، "التي ساهم في تأسيسها المسرحي ألمايو كحساي مع الفنان أتو برهان سقيد والفنان الأمين عبد اللطيف والفنان تولدي ردا وآخرين مثل الفنان يونس إبراهيم، ويماني قبر ميكائيل وعثمان عبد الرحيم والفنان بريه وآخرين من الموسيقيين عبد الله أبو بكر وهيلي قبرو والفنانة تبريه تسفاهوني".

يستطرد إدريس "هؤلاء الفنانون ظهروا في زمن كانت فيه الهوية محل نزاع، والتعبير الفني شكلا من أشكال المقاومة. ومن خلال منظور المؤرخ ألم سقد تسفاي، يمكننا فهم كيف تفاعلوا مع هذه الانقسامات المفروضة لا سيما أن قضية رفض تقسيم الشعب الإريتيري هو أساس العمل السياسي المقاوم وديدن إبداع الفنانين والفنانات في مرحلة ما قبل الكفاح المسلح الذي نظمته الثورة قبل الاستقلال".

إعلان

اللوحة الخلفية لأمة جديدة

لطالما لعبت الموسيقى دورا محوريا في إريتريا. فقد حشدت الشعب خلال حرب التحرير التي استمرت 30 عاما، وبعد تحقيق الاستقلال، كانت الموسيقى صوتا قويا لأمة جديدة خرجت من عقود من الصراع.

عكست معظم أغاني البلاد المبكرة معاناة الإريتريين خلال الحرب، وحمل العديد منها رسائل سياسية صريحة لتوحيد المواطنين وتجنيد الشباب للقتال.

منذ إعلان الاستقلال عام 1993، اتسع نطاق الأغاني. الآن، يُعبّر المغنون عن كل شيء، من الفخر بنجاحات إريتريا إلى أغاني الاحتجاج وحتى أغنيات الحب والاحتفال بالحياة، تماما كما يفعل الموسيقيون الملتزمون بقضايا بلدانهم في أركان الدنيا الأربعة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق