خلف مغازل خشبية تحيك أثوابا تقليدية مزركشة بألوان مبهجة تصارع الزمن وأنماط الموضة الحديثة، يقف حرفيون مغاربة يتفننون في نسج الثوب التقليدي "الدرازة" الذي اشتهرت به مدن شمال البلاد.
عبد الغني الفقيه، أحد أشهر صناع "الدرازة" بمدينة الشاون، يعمل في ورشته الشبيهة بخلية نحل، متحركا بين أدواته وعماله، حرصا على إتقان إنتاج المناديل والجلابيب والمعاطف التقليدية.
ورشة الفقيه التي تجاور محال أخرى بسوق المدينة، تقاوم الاندثار بجودة منتجات تقليدية تضفي على لابسها دفء القماش وأصالة الماضي على حد سواء، أملا في كسب زبائن يعز الوصول إليهم مع أسواق المنتجات الحديثة والمستوردة.
ألوان وحياكة
داخل ورشة "الدرازة"، ينهمك بعض العمال في عملية الحياكة بتناغم يجمع مستويات من الأجيال المختلفة، بين شاب يعد الخيوط ومسنّ بلغ من العمر عتيا يعمل على نسج الجلابيب.
يقول الفقيه إن نسج الملابس التقليدية يتم في مراحل، الأولى بتدوير الخيوط متساوية الطول، ثم نسجها بالمرما (آلة خشبية تقليدية للنسج)، ثم تقطيعها، لتنطلق بعدها مرحلة أخرى من النسج من جديد.
ويعتبر الفقيه أن كل مرحلة من النسج تتطلب وقتا محددا، يقتضي تعاون عاملين اثنين أو أكثر لإبداع المنتوج.
وعن الجلباب، يقول إنه يمر بنفس المراحل، وعلاوة على عملية الخياطة، فإن صنعه يتطلب 4 ساعات أو أكثر، نصف المدة لتوفير الخيوط ونسجها، والنصف الآخر لعملية الخياطة نفسها.
خيوط حمراء وأخرى بيضاء هي الغالبة على باقي الألوان في الورشة، وهي التي تشكل بصمة المغربيات الشماليات، فضلا عن الأزرق اللون المفضل أيضا لدى نساء المدينة.
إنتاج وتسويق
لمنسوجات "الدرازة" أهمية تضاهي قيمة الزمن والجهد المبذول فيها، ومعددا أنواعها بين الجلابة (الجلباب) والقشابة والسبنية (غطاء رأس المرأة التقليدي)، يقول الفقيه إن إنتاجها يتطلب تجربة وفنّا ووقتا، مقارنة بغيرها من المنتجات التي تتم عبر الآلات لا أنامل البشر.
إعلان
الفقيه المعروف لدى تجار المدينة بجمالية منتجاته، وحرفية عماله، يسعى لتوفير المنتجات على حسب كل موسم، إذا يقدم المناديل والمآزر صيفا، والجلابيب والمعاطف شتاء.
أما صوت المناسج المتناسق فيشكل معيارا ودليلا للحرفيين المهرة، الذين يركزون على طريقة الحياكة وطول الأثواب، فضلا عن تناسق الألوان.
ولهذا تجد، في أسواق مدينة الشاون، متسعا لمنتجات الأثواب التقليدية، ولا يفتر تجار المدينة في محاولة إقناع الزبائن والزوار بجمالية المنسوجات التقليدية وجودتها، وبعضهم يحرص على إظهار طريقة الحياكة داخل متجره ليرى الزبون بعينيه مراحل النسج من بدايتها إلى نهايتها.
أصالة وحداثة
سكينة المنوري، شابة مغربية من الشاون لا تعمل في مكان مثل ورشة الفقيه، لكنها تحاول مزج أصالة "الدرازة" بحداثة الملابس الجاهزة، لتصبح صاحبة مصنع يعمل على نسج الملابس بالآلات العصرية، انطلاقا من أشكال المنتجات التقليدية وألوانها التي اشتهرت بها.
لجأت المنوري (30 عاما) لهذه الفكرة حينما لاحظت أن زبائن اليوم لم يعودوا كالأمس يهتمون كثيرا باقتناء المناديل التقليدية، رغم أنها تراث موريسكي جاء به الأندلسيون منذ أكثر من 500 عاما إلى منطقتها.
تقول إنها تحاول أن تلحق بركب التقنية عبر عرض منتجاتها إلكترونيا، إلا أن العملية تصطدم ببعض الصعوبات التي تحاول تذليلها.
الشابة تحاول أن تطور الصناعة التقليدية للمنطقة مع المحافظة على المواد الأولية وملامح المنسوجات، خاصة أن المنتجات الحديثة والمستوردة تفرض على الصناعة التقليدية تطوير أدوات عملها.
نساء الشاون المتقدمات بالسن لا يفارقن المنديل صيفا وشتاء، والرجال يرتدون المعاطف الصوفية المصنوعة محليا، فيما يرغب الشباب الجديد من هذه الصناعة التقليدية، وهو ما تحاول المنوري توفيره رغم التحديات.
وفي المقابل، تستمر بورشة "الفقيه" الآلات الخشبية لصناعة الأقمشة والأغطية الصوفية، في محاولة لمقاومة الزمن وإقناع الشبان بالالتحاق بركب حرفة الأجداد، حتى لا ينقطع وصل الحاضر بتراث الماضي.
0 تعليق