في "صالة أوراسيا" الواسعة بمركز يني قابي للمعارض وعلى مرمى حجر من بحر مرمرة لا تفوح رائحة الكتب الجديدة فحسب، بل يفوح عبق تاريخ يعود إلى قرون.
هنا يتجسد معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي كملتقى عالمي حيوي لا يجمع عشاق لغة الضاد من العرب المقيمين والزوار فحسب، بل بات وجهة أساسية لمتقني العربية من الأتراك، وللباحثين والمثقفين القادمين من أقاصي أوروبا وآسيا.
وتحت شعار "وتبقى العربية" انطلقت الدورة العاشرة من المعرض السبت الماضي، لتؤكد على مكانة إسطنبول كجسر ثقافي لا يربط بين القارات جغرافيا فحسب، بل يربط بين دور النشر والقراء والباحثين في فضاء رحب من الفكر والمعرفة.
وبمشاركة أكثر من 300 دار نشر من 20 دولة وبوجود ما يربو على 150 ألف عنوان كتاب تحول المعرض إلى ظاهرة ثقافية تتجاوز حدود بيع وشراء الكتب.
"عرس ثقافي" بروح من الحرية
ويصف المنسق العام للمعرض محمد أغير أقجه هذه الفعالية السنوية بأنها "عرس ثقافي عربي في قلب إسطنبول".
ويؤكد في حديثه لوكالة الأناضول أحد أهم مبادئ المعرض، قائلا "نحن نعتز بالحرية المطلقة لنشر الكتب، لا توجد أي قيود، والقارئ بإمكانه أن يجد ما يبحث عنه من كتب هنا، من مختلف التفرعات العلمية والثقافية والدينية".
هذه الروح المنفتحة، إلى جانب الحضور الرسمي اللافت لوزارات الثقافة العربية، مثل الجزائر والمغرب وكبرى دور النشر تساهم في خلق بيئة خصبة لتوقيع بروتوكولات تعاون مستقبلية بين الناشرين الأتراك والعرب، مما يعزز دور إسطنبول كفاعل أساسي في صناعة الكتاب العربي.
إسطنبول و"سوق عكاظ"
بدوره، يرى رئيس الجمعية الدولية لناشري الكتاب العربي في تركيا مهدي الجميلي أن أهمية المعرض تتجاوز البعد الثقافي لتشمل بعدا تجاريا وإستراتيجيا.
ويقول الجميلي "أصبح معرض الكتاب العربي بإسطنبول مثل سوق عكاظ يلتقي فيه الناشرون ويعرضون كتبهم"، في إشارة إلى السوق التاريخي الشهير في حقبة ما قبل الإسلام، والذي كان ملتقى للتجارة والشعر والثقافة.
إعلان
ويوضح أن الهدف الذي انطلقت من أجله الجمعية عام 2014 -وهو جعل تركيا مركزا لطباعة وتوزيع الكتاب العربي- قد تحقق اليوم.
ويضيف "أصبحت دور النشر تطبع الكتب العربية في تركيا وتوزعها في الدول العربية والعالم، وإن توزيع الكتاب العربي من إسطنبول إلى أوروبا وآسيا بات أقل تكلفة من نقله، سواء من بيروت أو القاهرة".
وهذا الموقع الإستراتيجي جذب حضورا نوعيا، فلم يعد المعرض مقتصرا على القراء الأفراد.
ويؤكد الجميلي "تشارك في المعرض مراكز ثقافية وعلمية وبحثية وأصحاب مكتبات يحضرون من بلغاريا ومقدونيا والنرويج وفرنسا والسويد وفلسطين، ليجمعوا الكتب من هنا".
مائدة الحرف العربي
ولا يقتصر زوار المعرض على الناطقين بالعربية كلغة أم، فتركيا -كما يشير الجميلي- "أصبحت قبلة لمن ضاقت بهم أوطانهم، والأمر لا يقتصر على العرب فحسب، بل يشمل جاليات إسلامية مليونية تقرأ الكتاب العربي"، وهذا التنوع يعكس بعدا ثقافيا أعمق للمعرض.
"لمسنا هذا الشيء في المعرض، قراء العربية من غير العرب يأتون بكثرة في الساعات الأولى من الافتتاح، سواء من المقيمين داخل تركيا أو ممن يأتون من خارجها" يوضح الجميلي، قبل أن يختصر رؤيته في عبارة بليغة "هذا الحرف العربي أصبح المائدة التي تجتمع إليها الشعوب الإسلامية، وهنا يكمن البعد الثقافي لمعرض الكتاب العربي بإسطنبول".
ولإثراء هذا الملتقى يضم البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض أكثر من 100 فعالية، من محاضرات وندوات وأمسيات شعرية وأدبية يشارك فيها علماء وأدباء وشعراء عرب من كافة أنحاء العالم.
أصداء من أروقة المعرض
بين ممرات المعرض المزدحمة تتجلى قصص الشغف بالمعرفة، يقول دانييل أحمد شاه -الذي قدم خصيصا من مدينة بورصة حيث يدرس الفقه الإسلامي- "كنت أبحث عن كتب ابن خلدون وكتب إخوان الصفا ووجدتها هنا، هذا المعرض أتاح لي فرصة كبيرة للوصول إلى المراجع العربية".
ولم يغفل دانييل -وهو من روسيا- التعبير عن "إعجابه الكبير بحضور القضية الفلسطينية وغزة في المعرض".
من جهته، قدم الزائر الماليزي يوسف إبراهيم من المملكة العربية السعودية، وقد لفت نظره العدد الكبير لدور النشر المشاركة، ويقول "رأينا دور نشر من المغرب العربي ومن مصر وغيرها، هذا المعرض يعتبر حدثا عالميا للكتاب العربي"، مشيرا إلى أنه وجد ضالته في كتب الفقه الإسلامي التي كان يبحث عنها.
أما آمنة عادل بدوي -وهي فلسطينية من غزة- فقد أعربت عن سعادتها الغامرة لما رأته من "حضور للقضية الفلسطينية ولغزة في العناوين والفعاليات"، وقد جاءت إلى المعرض بهدف صقل ثقافتها عبر اقتناء الروايات خصوصا.
وهكذا، يواصل معرض إسطنبول للكتاب العربي -الذي يستمر حتى 17 أغسطس/آب الجاري- ترسيخ مكانته كمنارة ثقافية وفكرية تُثبت في كل عام أن لغة الضاد بكل ما تحمله من إرث وحيوية لا تزال قادرة على جمع العالم.
0 تعليق