موسكو- بات الوجود الروسي في جنوب القوقاز أمام تحولات كبيرة وسط مؤشرات احتمال تراجع نفوذ موسكو هناك، عقب توقيع أرمينيا وأذربيجان إعلانا مشتركا مع الولايات المتحدة بشأن تسوية سلمية واتفاقيات في مجالي التجارة والأمن بعد صراع استمر بين البلدين الجارين لأكثر من 35 عاما.
ويفتح هذا الاتفاق، الذي تضمن كذلك موافقة أرمينيا على فتح طريق نقلٍ "أميركي" عبر أراضيها يربط أذربيجان بجيبها نخجوان، الأبواب أمام إعادة تنظيم جيوسياسي لجنوب القوقاز، من شأنه أن يُعزّز مكانة الولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوروبي، ويُهمّش روسيا في الإقليم الإستراتيجي.
"ممر ترامب"
وفقا لأحكام الاتفاقية، سيُنقل جزء من ممر زنغزور إلى إدارة شركة أميركية لمدة 99 عاما، وسيُطلق عليه اسم "ممر ترامب". كما ستُوسّع الولايات المتحدة تعاونها مع كلا البلدين في مجالات الطاقة والتجارة والذكاء الاصطناعي.
إلى جانب ذلك، سترفع واشنطن القيود المفروضة على التعاون الدفاعي مع باكو وستُطوّر الشركات الأميركية البنية التحتية في كلا البلدين وستستثمر فيهما أموالاً طائلة.
ويضاف إلى كل ذلك، الاتفاق الذي ينص على مشاركة الجيش الأميركي في مهمة حفظ السلام في المنطقة، وهو ما يعد بحد ذاته ضربة إضافية للجانب الروسي.

طريق الحل والربط
وممر زنغزور هو طريق جبلي بطول 43 كيلومترا، يربط الجزء "الرئيسي" من أذربيجان بجمهورية ناخيتشيفان ذات الحكم الذاتي التابعة لها، مرورا بمنطقة سيونيك في جنوب أرمينيا.
إعلان
خلال عهد الاتحاد السوفياتي، شُغّل خط سكة حديد في هذا الممر، وشُيّد طريق سريع. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية حرب قرة باغ الأولى، انقطعت الاتصالات في هذا الجزء وفُكّكت خطوط السكك الحديدية فيه وفي منطقة سيونيك بأرمينيا، وبالتالي انقطع الاتصال البري بين ناخيتشيفان وأذربيجان.
وبما أن ناخيتشيفان تقع على حدود تركيا، فإن هذا الطريق يمكن أن يربط باكو بطريق مباشر إلى أنقرة، مما سيعزز مكانتها في المنطقة، ويفتح المزيد من فرص التجارة في آسيا الوسطى.
ووفقًا لمراقبين روس، فإن ما حدث في واشنطن سيُشكّل ضربة قوية للمصالح الروسية في الإقليم الذي شكّل لعقود طويلة الحديقة الإستراتيجية الخلفية لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
تآكل جيوسياسي
يرى محلل الشؤون الإستراتيجية، أوليغ بوندارينكو، أن الاتفاق "الثلاثي" يشكل ضررا على السياسة الخارجية، وقد تكون له عواقب بعيدة المدى على روسيا.
ويضيف للجزيرة نت، أن التجاهل "التام" الذي تعرضت له موسكو خلال المفاوضات الأرمينية الأذربيجانية لا يعني بحد ذاته سوى شيء واحد وهو أن هذه الدول لم تعد تكترث لرأي موسكو.
وحسب رأيه فإن ترجمة الاتفاق على الأرض تعني أن روسيا فقدت السيطرة تماما على جمهوريات القوقاز السوفياتية السابقة، والتي لم تكن تجرؤ حتى وقت قريب على التلفظ بكلمة دون إذن روسي- حسب وصفه.
كما أن الأمر الأكثر إزعاجا -حسب ما يقول- هو أن هذا لم يحدث فجأة بل بدأ منذ سنوات عديدة، عندما بدأت روسيا تفقد تدريجيا نفوذها في كل من أرمينيا وأذربيجان، بينما لم تتعاطَ النخبة السياسية الروسية، كما يجب، مع هذه المخاطر.
ويشير، على سبيل المثال، إلى أن أرمينيا -منذ تولي رئيس الوزراء نيكول باشينيان السلطة عام 2018، اعتمدت على الغرب، وطوّرت تكاملا مع الاتحاد الأوروبي في جميع الاتجاهات تقريبا. في الوقت نفسه، تجاهل باشينيان علنا الوفاء بأي التزامات تجاه روسيا، رغم أن أرمينيا لا تزال عضوا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
ويتابع بأن الرغبة في "مغازلة" الغرب هي ما دفعت باشينيان إلى تسليم قرة باغ للأذربيجانيين دون قتال، ولكنه في الوقت نفسه ألقى باللوم على روسيا فيما حدث.
وبالنسبة لأذربيجان، يلفت المتحدث إلى أنها رفعت منذ فترة طويلة شعار الوحدة مع تركيا، وبأيديولوجية سياسية تركية جامعة، لكن هذه الأيديولوجية، تُشكل تهديدا كبيرا لروسيا.
لذا، كان لا بد أن تؤدي سياسات باكو، عاجلا أم آجلا، إلى تدهور العلاقات مع موسكو، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ "استغل الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف صعوباتنا المرتبطة بالحرب مع أوكرانيا ليقطع علاقته نهائيا وعلنيا معنا".

استسلام غير مشروط
بدوره، اعتبر الباحث في دراسات جنوب القوقاز، راميل أسادوف، أن صفقة "زنغزور" الأميركية التي تمتد لـ99 عاما تعني زيادة كبيرة في النفوذ الأميركي في منطقة حساسة بالنسبة لروسيا.
وحسب حديثه للجزيرة نت، فإن أرمينيا هي أيضا طرف خاسر، إذ تطالبها أذربيجان بإجراء تعديلات دستورية تتعلق بـ"إعلان الاستقلال" لعام 1990 والتوقف عن أي مطالبات إقليمية في ناغورني قرة باغ، قبل إبرام اتفاق سلام نهائي.
إعلان
ووصف المتحدث توقيع أرمينيا على الاتفاق بالاستسلام غير المشروط، وخاصة فيما يتعلق باحتمالية فتح قاعدة أميركية بالقرب من ممر زنغزور، وقد يؤدي إلى خسارة القاعدة الروسية في غيومري.
وأوضح أن حصول هذا الاتفاق قبل أيام من قمة ألاسكا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب سيعطي الأخير مواقف تفاوضية جيدة.
ولم يستبعد أن تكون الخطوة التالية ليريفان هي الانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وذلك في سياق مواصلة يريفان قطع كافة الخطوط اللوجستية والأمنية والعسكرية والتاريخية التي تربطها بموسكو.
0 تعليق