عاجل

ما الذي يعنيه أن تكون صحفيا فلسطينيا وسط الإبادة؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

على شرفة مكتب قناة الجزيرة وسط مدينة رام الله، جفَّ أصيص النعناع الذي لم يعد أحدٌ من طاقم القناة قادرًا على الوصول إليه بعدما قُيِّد بقرارات حظر عمل مزدوجة من الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية منذ سبتمبر/أيلول 2024 وحتى اليوم.

وعلى نفس الشرفة، لا تزال بقية من صور شيرين أبو عاقلة التي نجت من تخريب جنود الاحتلال؛ تطلُّ على قلب مدينة رام الله الذي تبدو فيه الحياة عاديةً في أشد لحظات تاريخ فلسطين خطورةً، في انعكاسٍ ثقيل لتعقيدات وتقاطع سياسات الهيمنة والقهر الممتدة منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وهي سياسات تتحكم في كافة مفاصل حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية لتظهر مراكز المدن عادية على هذا النحو في أوج الإبادة.

خريطة الضفة الغربية (الجزيرة)

وإن لم يكن للإنسان أن يختار بدايته زمانًا ومكانًا ولا تفاعلاتهما الكبرى، فإن جوهر وجوده دومًا كان قدرته على الاختيار في تشكيل معناه وتلقيه لتلك التفاعلات الكبرى حين تشق طريقها إلى أخطر ما يمتلكه المرء: كيف يقرأ ذاته وما يمارسه على ضوء هذه التفاعلات.

يتتبع هذا المقال صيرورة الممارسة الصحفية الفلسطينية في الضفة الغربية من خلال بعضٍ من حكاياتها في زمن الإبادة الذي تعيشه فلسطين، حيث تشق التفاعلات الكبرى طريقها نحو أدق تفاصيل العلاقة بها في زمن الحرب.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

100 عام من مهاتير محمد صاحب نهضة ماليزيا الذي لم يفلت من قسوة التاريخ

list 2 of 2

هذا هو البابا الفقير الذي تكرهه إسرائيل

end of list

إعلان

وإن كانت الصحافة مهنة تُلْزِمُ بالتعامل مع الحقائق والأدلة، فإن القدرة على الاستمرار فيها تعبر من نافذة في القلب يتمازج فيها الخيال والحنين.

في غرفة الأخبار، ما بين التجريد والكثافة

في زمن الحرب، يفرض تسارع الأخبار حالةً من الغرق في المتابعة إلى الحد الذي لا يكاد فيه الصحفي الفلسطيني يجد متسعًا للإصغاء لأي صوتٍ سوى تمازج صوت النقر على لوحة المفاتيح ورنين الهاتف وشارة نشرة الأخبار.

وفي أحيان أخرى تطغى حالة الترقب والتأهب بين الخوف والرجاء، في ليالي الهدوءِ الحذر واحتمالاته الكامنة، وبعد حين يكون هذا الهدوء الحَذِر دليلًا إلى الداخل، نحو الصوت المتواري خلف عقل متأهب وقلب ملتهب ويدين باردتين تُحَوِّلان تحت حكم الضرورة حكايات البلاد والناس فيها إلى بضعة أسطر اسمها "خَبَر".

هذا الالتحام اليومي الكثيف مع التفاصيل والمجريات والانسياب معها في حركتها الموجية، هو أكثر ما في هذه المهمة من مشقة، فما بين أسى الناس وصراع الساسة، تنفتح عين ثالثة للصحفي، يرى بها تشابك الخيوط بين الأسى والصراع، وما ينطوي عليه هذا من عقائد تزيد نار الحرب اضطرامًا، ولهذه العين سحرها ولعنتها في آن واحد.

حين تتشابك الخيوط الكبرى يخلق صراع المشاريع السياسية أسى الناس ليجتث منهم صوت الـ"لا" في وجه الطغيان، فتصبح الرصاصة المستقرة في قلبٍ أو رأسٍ تحتاج إلى عين مجهرية لا تغفل عنها وهي تبدو لوهلة هامشًا على متن تصارع المشاريع الكبرى.

منذ بداية الإبادة، تنفذ إسرائيل بسرعة فائقة سياساتها العنيفة لإماتة أي نُويَّة لمقاومة الاحتلال في الضفة الغربية، فقامت بتشظية الضفة الغربية جغرافيًّا عبر مئات البوابات والحواجز التي حوَّلت التجمعات السكانية الفلسطينية إلى بؤر معزول بعضها عن بعض، ومكشوفةِ الظهر لهجمات المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال.

فضلًا عن عشرات آلاف الاعتقالات والمداهمات الليلية، لكن أشد ممارسات إسرائيل قهرًا وفداحةً هو القتل بدمٍ باردٍ في محاولةٍ لتطبيع مشهد القتل اليومي المباغت في كافة مدن وقرى الضفة الغربية لكيِّ الوعي الفلسطيني بمزيدٍ من الدم، فضلًا عن الإبادة الدامية التي لم تتوقف في قطاع غزة.

إعلان

وأمام هذا التسارع في الأخبار، يواجه الصحفي الفلسطيني تحدي إنتاج الخبر دون أن تسقط منه التفاصيل التي تمنح القصة أبعادها وموقعها في سردية المجتمع الفلسطيني في مواجهته للإبادة.

ذات مطلع فجرٍ في غُرَف الأخبار في الضفة الغربية في يناير/كانون الثاني 2024، تدفقت الأخبار من جنين عن استهداف طائرة مسيرة لمجموعة شبان كانوا يتحلقون حول جذوة نارٍ التماسًا لبعض الدفء، أربعةٌ منهم كانوا أشقاء: هزاع ورامي وأحمد وعلاء ناجح درويش، أي أن قلبَ أم واحدةٍ سيحمل هذه الفاجعة كلَّها، في سبيل أن تظل الجماعة الفلسطينية في الضفة الغربية تحت سياط الخوف من ثمن الـ"لا".

ومن هذه الفجوة التي تحاول إسرائيل توسعتها بالمزيد من القتل، تحاول خطط القوى الكبرى في العالم أن تدخل لتمحو هذا الوجود غير مكترثة لمعنى أن تفجع أمٌّ بكل هذا الفقد، وفي خضم كل هذه التقاطعات الثقيلة التي تقع على قلبٍ بحجم قبضة اليد، يكون على الصحفي أن يحافظ على كل جوانب القصة، أن ينجو بنفسه وبها لأن في ذلك نجاةً لمستقبل مجتمعه الذي تُرادُ له الإبادة.

تميل غُرَف الأخبار إلى إنتاج القصة على نحو يحاكي سرعة العالم، وتوجه الجمهور نحو الاستهلاك السريع للأخبار وفق التطورات، لكن في ميدان الخبر في فلسطين، يكون على الصحفي أن يتشظى بين طبيعة التوجه في غرفة الأخبار، وبين واجبه الأخلاقي في الحفاظ على تفاصيل القصة لأن في ذلك حفاظًا على جوهر مجتمعه على المدى الطويل، وهذا مما لا تعبأ به آلة الإعلام العالمية الضخمة وهي تبتلع عشرات آلاف التفاصيل يوميًّا.

في ليلة أخرى من ليالي غُرَف الأخبار، تسارعت الأخبار حول إطلاق قناص إسرائيلي رصاصة قتلت شابًّا اسمه محمود الحروب في مدينة دورا جنوب غرب الخليل.

أعادت تلك الرصاصة صحفية فلسطينية واحدًا وعشرين عامًا إلى الوراء، حين كانت طفلةً في الصف الثالث الأساسي، بمعطف كرزي اللون تعلق عينيها بصورةٍ معلقة فوق السبورة لطفلٍ شهيدٍ من زمن الانتفاضة الثانية اسمه محمود أيضًا.

إعلان

محمود الشهيد برصاصة قناص هو سَمِيُّ محمود خاله الذي كانت صورته فوق السبورة.

هذه واحدةٌ من قصص كثيرة تضع الصحفي وجهًا لوجه أمام ثقل اختصار كل هذه التفاصيل في سطرٍ واحد: استشهاد شاب فلسطيني برصاص قناص إسرائيلي.

فيما يزيد على عامٍ ونصف من زمن الحرب التي تعيد تعريف الوجود كله، قيمةً ومعنًى، تحمل هذه المهمة معها مشقة مضافة تكمن في إدراك أن ثمة حربًا أخرى خفية، ميدانها يكمن في عدم الاعتياد، والنجاة من نسيان التفاصيل، والقدرة على الإفلات من كيِّ الوعي الذي تمارسه إسرائيل منذ بداية الحرب بحق الجسم الصحفي الفلسطيني بمختلف الأساليب: قتلًا واعتقالًا وتنكيلًا.

بكلماتٍ أخرى فإن الصحفي في الميدان اليومي يحاول حسم هذه الحرب الخفية بالبقاء على اتصال حيٍّ مع الألم والحرية معًا، وألا يفقد حدسه الذي يرى الجريمة جريمة في ميدان الضفة الغربية مهما بدت عابرة إذا ما قورنت بفداحة الجريمة في قطاع غزة، بل لعل رفع كلفة القتل والدم في غزة تستهدف تحديدًا أن يصير كل ما دون الإبادة قابلًا للمرور والتطبيع على أنه أهون مما سواه، فيسكت صوته.

نجاة القلب الغض

في يناير/كانون الأول 2023 كان بيت السيدة بسمة السعدية في مخيم جنين قد تحول إلى خراب وتكّوم بعضه فوق بعض، آلة الخياطة والبقالة الصغيرة التي كانت تعتاش منها هي وأختها، وغرفة المؤن التي كانت تحتفظ فيها بالمواد الغذائية الأساسية التي تحتاج إليها الأسرة طوال العام.

كانت السيدة في صدمة وغضب والناس يدخلون ويخرجون ما بين مساعدة في إصلاح الخراب أو كلمات مواساة لأهل البيت الذين كان بيتهم في تلك الأيام قد تحول إلى ثكنة عسكرية لجيش الاحتلال، وكان من ضمن الداخلين إلى بيتها طاقم من الصحفيين لتغطية آثار تخريب الجنود في البيت.

في الطابق العلوي، ترك الجنود كتابات بألفاظ نابية على الجدران وعبارات تتوعد بالقتل، أما في غرفة المؤن فقد أفسدوا كل شيء، اختلطت الزيوت بمواد التنظيف بالأغطية والمفارش، ولم يكن هذا أشدَّ ما في الأمر، بل كان قهر السيدة بسمة الذي يمكنك أن تشعر معه بأن قلبها سيخرج من مكانه من فرط الغضب والكمد.

إعلان

كانت الطواقم الصحفية تتحرك داخل البيت، وتسمع من السيدة بسمة تفاصيل حكاية تعبها لسنوات الذي أهدرته رعونة الجنود الإسرائيليين في ثلاثة أيام، لكن ذلك كله لم يغفلها عن القيام بواجب ضيافتهم. اللافت في تلك السيدة أنها كانت تلاحظ مَن منهم قد دخل بيتها ولم ينل -لانشغاله- نصيبه من الضيافة، فحملت الضيافة إليه في الخارج، ووضعتها بين يديه.

يدفع هذا نحو الدهشة من هذه الغضاضة في القلب القادر على التأكد من القيام بالواجب في الكرم وحسن الضيافة حتى في لحظات العمر الشديدة الثقل، ويدفع كذلك نحو الواجبِ في توثيق هذه الغضاضة، وألا تطويها مع مرور الزمن الأحداث الصعبة المتعاقبة.

يتكرر هذا الموقف كثيرًا في التغطيات الصحفية الميدانية في الضفة الغربية، وهو أحد المواقف التي تترك في الروح أثرًا من السعة والصبر على المواصلة، كما تترك فيها إشارة دالَّة على ما لا ينبغي أن تمنعنا الإبادة من رؤيته وتأريخه من تفاصيل قيم هذا المجتمع.

سلب الميدان، سلب الاحتمالات

في ذلك اليوم، الخامس عشر من يناير/كانون الأول 2023، وثَّقت صفحات مذكرات صحفية فلسطينية التالي:

"فجر اليوم جاءت شيرين أبو عاقلة إلى منامي، كانت هادئة وعذبة، تقف في مطبخ جميل تتسلل إليه أشعة الشمس على نحوٍ يثير الحنين، تصنع الخبز بهدوء يشبهها. كان المطبخ الهادئ يتوسط ساحةَ حرب صاخبة، قصف وموت ودمار، وشيرين بهدوء تصنع الخبز، صامتةً، أنظر إليها في طمأنينةٍ كأن لا حربَ وراء جدار المطبخ!".

وقبل أن تغيب شمس ذلك اليوم كان مصور الجزيرة في خان يونس سامر أبو دقة على موعدٍ باللقاء في الأعالي مع شيرين أبو عاقلة، منضمًّا بذلك إلى قافلة الصاعدين إلى السماء من الصحفيين الفلسطينيين. هذه القافلة التي لم تتوقف حتى تاريخ كتابة هذا المقال.

على مدخل مكتب قناة الجزيرة في رام الله كانت صورة سامر أولى صور صحفيي الجزيرة انضمامًا إلى صورة شيرين أبو عاقلة. في الأشهر التالية وحتى اليوم، انضمت صورٌ وأسماءٌ أخرى إلى سامر وشيرين، فقد خسر الجسم الصحفي الفلسطيني ما يزيد على 210 صحفيين حتى تاريخ كتابة هذا المقال.

في جنين مرَّةً أخرى، كان مشهد جثمان الصحفية شذى الصباغ محمولًا على أكتاف زملائها الذين تقاسمت معهم الميدان مشهدًا مُفجِعًا. فشذى التي طالتها رصاصة قناص من عناصر السلطة كما قالت عائلتها، كانت تحلم مثل زملائها الصحفيين بمشهد آخر يجمعهم في صورةٍ واحدة.

إعلان

أضرم مشهد جثمان شذى، مثل مشاهد جثامين صحفيي غزة، نار السؤال في ذهن الصحفي الفلسطيني اليوم: على كتف مَن سيكون قدر الواحد منا؟ وبأي رصاصة؟!

وعليه أن يقاتل تعارك الاحتمالات في رأسه بحثًا عن صورةٍ أقل ألمًا وأكثر أملًا رغم قسوة الواقع.

إن آلة القتل في الضفة الغربية وقطاع غزة لم تسلب الجسم الصحفي الفلسطيني أكثر من مئتي صحفي فقط، بل سلبته أيضًا أي احتمالات أخرى كان من الممكن أن تجمع هذا الجسم الصحفي لو كان يتحرك ضمن جغرافيا أقل تعقيدًا.

في التغطية المستمرة، تقوم العلاقة مع النوم والفجر على التأهب، ولطالما كانت ساعات الاستيقاظ الأولى للصحفيين من نومهم محمّلة بالفاجعة، ليس ابتداءً باستشهاد شيرين أبو عاقلة ذات صباح باكرٍ في جنين ولا انتهاءً باستشهاد المصورة الصحفية فاطمة حسونة قبل أيام في غزة.

يبدو النوم عمومًا في حياة الصحفي الفلسطيني اليوم محاولة لا تنجح كثيرًا في التقاط الأنفاس لمواصلة تغطية حرب لم تتوقف لحظة عن إغراق الفلسطينيين في دمائهم محاوِلَةً أن تقهر إيمانهم بأنهم قادرون على انتزاع حريتهم، وإرغامهم على رؤية العالم وأنفسهم كجماعة من المقهورين المهزومين، وتهشيم أي صورة في خيالهم يمكن أن تشد أزرهم وهم يلملمون لحمهم الحي ويدفنون ما بقيَ منه.

وبالمناسبة، فإن كتابة الكلمات في السطر السابق كانت فعلًا مُضنيًا وقاسيًا مع ما يحمل من حقيقة أن هذا فعلًا لا مجازًا هو ما يحصل.

وهذا مقطع آخر من مذكرات الصحافة الفلسطينية في الضفة الغربية وهي تتلقى إبادة الصحافة في قطاع غزة مرةً بعد مرة:

"في السابع من يناير/كانون الثاني، أنهيت الوردية الليلية وحاولت النوم قليلًا. كان أول ما صحوت عليه من تلك الغفوة المتقطعة خبر استشهاد الزميل الصحفي حمزة وائل الدحدوح.

وثمة أخبار تنهال على وعي الإنسان كأنها ساطور! تقسمه إلى مرحلتين، ما قبلها ليس كما بعدها.

في الأيام التالية، سأذهب إلى المكتب لأجد صورة حمزة جوار صورة الزميل سامر أبو دقة، والزميلة شيرين أبو عاقلة.

وأن تكون صحفيًّا في فلسطين المحتلة ينطوي على صراع لا يتوقف داخل رأسك، بين السؤال الواقعي والمخيف: مَن التالي؟ وبين الرجاء ألا تُضاف صورة أخرى.

بعد ذلك بأشهر، سأغفو في اليوم الأخير من يوليو/تموز 2024 بعد تغطية مكثفة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس في طهران إسماعيل هنية، وسيوقظني الصوت: إسماعيل الغول استشهد.

لا معنى لأي فزعٍ يمكن أن نتحدث عنه أمام الفزع اللامتوقف في غزة، ولكن الخبر ذاك كان ثقيلًا إلى الحد الذي تشعر معه أنه يهدُّ جبلاً. ولا تعرف معه كيف تحزن أو تبكي أو تعزي".

لا تسعى إسرائيل إلى إبادة ما هو كائن فحسب، بل إنها أيضًا أبادت وتبيد الاحتمالات، ولكن هذا ينطوي أيضًا على احتمالات أخرى تنبثق من إبادة سواها.

لو لم تفرض علينا إسرائيل هذه التشظية لكان من الممكن في جغرافيا فلسطين المتخيلة، أن تجمع الصور والذكريات والأعمال صحفيي غزة بالضفة، وأن تنبثق من هذا صداقات وعلاقات وعوالم، لكن هذا الاحتمال سُلِبَ من الجسم الصحفي الفلسطيني منذ ما يزيد على ربع قرن بعزل الضفة الغربية عن قطاع غزة، واليوم يُسْلَب كل احتمال لأي رابطة بين الحيزين، بالدم.

إعلان

الاتساع نحو الداخل، النجاة نحو الخارج

في حيٍّ على الأطراف الشرقية لمدينة البيرة، كانت صحفية فلسطينية تقود سيارتها بموازاة الجبل الوحيد الذي بقيَ خاليًا من غابات الإسمنت التي طغت على المساحات الطبيعية في رام الله والبيرة. كان الاحتكاك اليومي بالتغطية المباشرة والعاجلة للأحداث قد استنزف روحها، وإذ إن الحيز ضيق مثل الوقت، فلم يكن من الممكن الهرب نحو الريف وطبيعته الرحبة في ذلك اليوم.

شيئًا فشيئًا أصبح الشارع خاليًا تمامًا، إلا من أطفال يلعبون الكرة فيه كأنه مملكتهم، وسيارةٍ تتبع مدرسة لتدريب القيادة، وما هي إلا لحظات حتى استدارت تلك السيارة عائدة قبل الوصول إلى نهاية الشارع.

أشار مدرب القيادة إلى الصحفية بأن في نهاية الشارع نقطة عسكرية، وأن الوصول إلى هناك يعني بلا شك رصاصةً أو رصاصات نحو السيارة.

كانت المدينة في ذلك اليوم كأنما تطبق من جهاتها الأربع على قلبِ هذه الصحفية الذي كان يبحث عن جبلٍ يحلق فوقه طيرٌ كما تصف، وعند تلك اللحظة تمامًا في وعيها الجواني، جاء مقطع من شعر وليد سيف ليمد يده إليها إذ يقول:

"وأنا صُعودٌ في الفضاءِ، أنا الحُدودُ المُشْرَعَةْ

في لحظة تَلِدُ الزَّمانَ ولا يُطَوِّقُها الزمانُ

وأنا المكانُ لكل من عَزﱠت مراميه وضاق به المكانُ".

لقد جعلت إسرائيل الضفة الغربية حقلَ رصاص، مما يدفع نحو السؤال: ما هو المتسع الممكن لصحفي أثقلت روحه ويلات هذا القهر؟

تكون الإجابة شعر وليد سيف، الاتساع نحو الداخل، القدرة على بناء عالمٍ جواني واسع قادرٍ على رؤية ما يحصل ضمن نسيج الكون والسُّنن، بصبرٍ وجَلَد، لا يلغيان الألم لكن لا يلغيان الحياة أيضًا.

هذه النجاة نحو الداخل، وحدها في اللحظة الراهنة هي القادرة على الإبقاء على قدرة الصحفي الفلسطيني على تحدي سَلْبِ الميدان منه واستباحة دمه وقهر مجتمعه، ومواصلته لالتقاط التفاصيل وتوثيقها واستنطاق الإبادة الصامتة المحيطة به في كل زاوية من زوايا الميدان في الضفة الغربية المحتلة.

إعلان

إلى أن تحين ساعة يتحقق فيها حلم شيرين أبو عاقلة، حلم الجسم الصحفي الفلسطيني كله: تغطية تحرير فلسطين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق