شهدت سوريا يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 سقوط نظام "الأسد الدكتاتوري" الذي بدأ مع حافظ الأسد عام 1971، واستمرّ مع نجله بشار الأسد، لتحلّ مكانه "الجمهورية العربية السورية" بقيادة أحمد الشرع.
إن نجاح هذه الثورة سيُقاس فقط بمدى قدرتها على تأسيس نظام جمهوري قائم على المساواة، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان.
يبدو أن التغيير السياسي الذي شهدته سوريا في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 سيؤدي إلى تحولات جذرية على مستوى الشرق الأوسط، وقد لعبت الجمهورية التركية، الدولة المجاورة لسوريا وصاحبة العلاقات التاريخية معها، إلى جانب بعض الدول الإسلامية التي تحركت معها بشكل مشترك، دورًا مهمًا في هذه التحولات.
لم تعد العلاقات الوثيقة والتأثير الذي تمارسه الجمهورية التركية في سوريا، سواء قبل 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 أو بعده، سرًا يخفى على أحد. فكما يعرف الحلفاء هذه العلاقة جيدًا، فإن الأعداء أيضًا يراقبون من كثب مدى قوة العلاقة بين الإدارة السورية وتركيا.
هذه العلاقة ستُفضي إلى تحولات جذرية على مستوى الشرق الأوسط، لأن من شأنها أن تُفشل كل مخططات إسرائيل الصهيونية المتهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
وإذا لم تطرأ تطورات غير متوقعة، فإن حلم "إسرائيل الكبرى" الذي لطالما تغذّى على أوهام "أرض الميعاد"، وسفَكَ الدماء في كامل المنطقة الممتدة من مصر جنوبًا إلى تركيا شمالًا، أصبح على وشك الانهيار.
إعلان
فمع سقوط نظام الأسد، وقع ما لا تريده إسرائيل بأي حال من الأحوال: لقد باتت تركيا، إن جاز التعبير، تجاور إسرائيل مباشرة، لا سوريا.
وبعد مرور شهر فقط، بدأت إسرائيل تشعر بالقلق من اقتراب تركيا منها عبر سوريا. وقد انعكس هذا القلق على احتلالها لهضبة الجولان الذي استمر منذ حرب 1967. إذ تخشى إسرائيل أن تفقد سيطرتها على الجولان، فانطلقت في محاولة جديدة لإنشاء مناطق عازلة عبر احتلال أراضٍ إضافية في مواجهة ما تعتبره تهديدًا وجوديًا.
لم تعد إسرائيل تواجه نظام الأسد الذي التزم الصمت لسنوات طويلة تجاه احتلال أرضه، بل أصبحت في مواجهة دولة سورية جديدة تتخذ قراراتها بشكل مستقل. أما الدعم التركي لهذا التوجه، فقد عمّق من حالة الرعب الإسرائيلية، لأنها تعلم هذه المرّة أنها ستواجه الأتراك بما يملكون من حضور عسكري قوي.
وبالفعل، جاء في تقرير أعدته "لجنة ناغل" التي أنشأتها الحكومة الإسرائيلية، وقدمته إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزيرين آخرين في 6 يناير/ كانون الثاني 2025، أن على إسرائيل الاستعداد لاحتمال اندلاع حرب مع تركيا.
وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في تعليقه على التقرير، الوضع في المنطقة بقوله: "نحن نشهد تغييرات جذرية في الشرق الأوسط. لطالما كانت إيران أكبر تهديد لنا، لكن قوى جديدة دخلت الساحة، ويجب أن نكون مستعدين لمواجهة السيناريوهات غير المتوقعة. هذا التقرير يقدم لنا خارطة طريق لضمان مستقبل إسرائيل".
في الأشهر الثلاثة التي أعقبت هذا التقرير، تحوّلت مخاوف إسرائيل إلى سلوك عدواني يعكس الذعر الذي يعيشه المحاصرون في تل أبيب. بدأت إسرائيل تشعر بأن تركيا باتت تلاحقها من قرب.
وبينما أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزراؤه تهديدات جوفاء تجاه تركيا، برز اعتراف صريح من رئيس دائرة مكافحة الإرهاب السابق في الموساد، عوديد إيلام، بأن "إسرائيل تخشى الدخول في صراع عسكري مع تركيا في سوريا؛ بسبب الفارق الكبير في القدرات العسكرية".
إعلان
وفي مقال له نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم"، كتب إيلام أن إسرائيل وتركيا تتجهان نحو مواجهة في سوريا، مضيفًا: "لم يعد السؤال عن احتمالات حدوث المواجهة، بل متى تحدث تلك المواجهة؟".
أعرب إيلام عن قلقه العميق من احتمال إنشاء تركيا قواعد عسكرية داخل الأراضي السورية، مشيرًا إلى أن وجود القوات المسلحة التركية بالقرب من حدود إسرائيل الشمالية يُثير قلق تل أبيب بشدة.
في هذا السياق، نفذ الجيش الإسرائيلي خلال الأسابيع الأخيرة أكثر من 14 غارة جوية على مطار حماة والمناطق المحيطة به، بالإضافة إلى استهداف مطار "تيفور" العسكري في محافظة حمص، ومنشآت عسكرية في العاصمة دمشق، فضلًا عن قصف مدفعي وهجمات بالهاون على مناطق غربي محافظة درعا.
لكن إسرائيل تدرك أن قصف الأراضي السورية بدافع الخوف من تركيا ليس حلًا فعالًا.
فما الذي ينبغي على إسرائيل فعله إذن؟
يجيب عوديد إيلام عن هذا السؤال في مقاله: "على إسرائيل أن تطلب المساعدة من الولايات المتحدة. ففي مثل هذه الحالة، لا يمكن أن تقلب التوازن إلا قوة عظمى: الولايات المتحدة. العم سام وحده هو القادر على بناء الجسور، والقيام بالوساطة، وتهدئة التوتر.. يجب على إسرائيل أن تدعو واشنطن للتحرك فورًا والانخراط في هذه القضية".
أما موقف تركيا من المسألة السورية، فهو واضح تمامًا، إذ تؤكد على أهمية وحدة الأراضي السورية، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بقوله: "قبل كل شيء، نحن لا نرغب في صراع مع إسرائيل على الأراضي السورية، لأن سوريا ملك للسوريين. سوريا ليست تابعة لتركيا، ولا تتبع لإسرائيل".
لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يعوّل على الدعم الأميركي، زار الرئيس دونالد ترامب للمرّة الثانية خلال شهرين، على أمل أن يمارس ضغوطًا على تركيا مستندًا إلى قوّة الولايات المتحدة.
وخلال لقائهما في البيت الأبيض، بادر نتنياهو بطرح الملف السوري أمام وسائل الإعلام، وقد أعرب عن قلق بلاده من تنامي النفوذ التركي هناك قائلًا: "لقد تدهورت علاقات الجوار مع تركيا. لا نريد أن تتحول سوريا إلى منصة للهجوم على إسرائيل، سواء من تركيا أو من غيرها. تركيا دولة تربطها علاقات رائعة بالولايات المتحدة، والرئيس ترامب تربطه علاقة قوية بالزعيم التركي. لقد ناقشنا سُبل تجنب هذا الصراع المحتمل، وأعتقد أنه لا يوجد وسيط أفضل من الرئيس الأميركي لتحقيق ذلك".
إعلان
وخلال اللقاء، وجّه مراسل صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية سؤالًا إلى الرئيس الأميركي جاء فيه: "تركيا تقول إنها ستحقق الاستقرار في سوريا، بينما تعارض إسرائيل هذا النفوذ التركي هناك. برأيكم، هل يمكن لنفوذ تركيا أن يجعل سوريا بلدًا أكثر استقرارًا؟"
كان رد الرئيس الأميركي صادمًا لنتنياهو، إذ قال ترامب أمام الصحفيين: "لديّ علاقات رائعة مع رجل يُدعى أردوغان. هل سمعتم بهذا الاسم؟ أنا أحبه، وهو يحبني. أعلم أن وسائل الإعلام ستغضب مني بسبب هذا، سيقولون: "ترامب يحب أردوغان". نعم، أحبه وهو يحبني. لم نواجه أي مشاكل على الإطلاق. مررنا بالعديد من المواقف، لكنها لم تتحول أبدًا إلى مشاكل.
كما تعلمون، نحن استعدنا القس الأميركي من تركيا. هل تذكرون؟ كان ذلك إنجازًا ضخمًا حينها. قبل قليل، قلت لرئيس الوزراء نتنياهو: " بيبي، إذا كان لديك مشكلة مع تركيا، فأعتقد أنني قادر على حلها. لدي علاقة رائعة جدًا مع تركيا ومع قيادتها. وأعتقد أننا نستطيع حل الأمر معًا".
كما كشف ترامب عن حوار دار بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قائلًا: "هنأته وقلت له إنه فعل ما لم يستطع أحد إنجازه منذ ألفي عام. قلت له: "لقد حصلت على سوريا". بكلمات مختلفة، لكن المعنى واحد. قلت له: "لقد حصلت عليها من خلال وكلاء"، فقال: "لا، لا، لم أكن أنا". فقلت له: "بل كنت أنت، لكن لا بأس"، فأجابني: "نعم، ربما كنت أنا بطريقة ما".
ثم ختم ترامب حديثه قائلًا: "انظروا، إنه رجل صارم وذكي للغاية. فعل شيئًا لم يفعله أحد. يجب أن نعترف له بذلك. ثم نظرت إلى نتنياهو وقلت له: "أعتقد أنني قادر على حل أي مشكلة تواجهها مع تركيا، ما دمت منطقيًا. علينا جميعًا أن نكون منطقيين".
وهكذا، سقطت إستراتيجية نتنياهو في الضغط على تركيا عبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بسبب عدم رغبته في تقديم "مطالب منطقية" مثلما تحدّث ترامب.
إعلان
من الواضح أن نتنياهو لا يريد أن تسحب الولايات المتحدة قواتها الموجودة في سوريا والتي يبلغ عددها حوالي ألفَي جندي، بل يطالب بزيادتها.
لم يُعلن ترامب قراره النهائي في هذا الشأن، لكن بقاء القوات الأميركية في سوريا لا يخدم مصالح الولايات المتحدة بشكل مباشر، وانسحابها سيُحدث تحولًا كبيرًا في موازين القوى داخل سوريا.
إذا حدث هذا الانسحاب، فقد يعني ذلك نهاية مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يبدأ من فلسطين ويمر بلبنان وسوريا، وصولًا إلى الأراضي التركية، وسيكون مصيره مزبلة التاريخ.
أما إسرائيل، فلم تُغير بعد أسلوبها الذي يعتمد على التأثير في صانع القرار الأميركي، كما لم تتخلَّ عن استخدام الأقليات، وفرع تنظيم "PKK" الإرهابي في سوريا (وحدات حماية الشعب/ حزب الاتحاد الديمقراطي) كأداة لتحقيق مصالحها.
والأسوأ من ذلك، أن الخيارات الماكرة التي قد تلجأ إليها إسرائيل ما تزال مطروحة؛ كتنفيذ عمليات تخريب واغتيالات لإضعاف حكومة الشرع في سوريا، أو شنّ أعمال استفزازية باستخدام تنظيم "PKK" الإرهابي الذي يُتوقع أن يُحلّ قريبًا.
كل شيء قد يتغيّر، إلا إسرائيل التي تأسست على الاحتلال والإبادة الجماعية، لا تتغيّر أبدًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق