قبل مدة ليست بعيدة، توفي مجموعة من الشباب في حادث سير في مدينة القدس، فسارع أهل القدس إلى مواساة أهل المتوفين والصلاة عليهم، إلا واحدا منهم رفضوا جميعا الصلاة عليه أو دفنه في مقابرهم، وذلك لأنه باع بيته لليهود.
إن هذا المشهد هو ثمرة لوعي ما زال يبذر منذ قرابة 100 عام حول بشاعة وخطورة تسريب العقارات لليهود في فلسطين عموما، وفي القدس على وجه الخصوص.
إن كثرة الحديث عن خطورة بيع الأراضي لليهود والعقارات في القدس قد يوحي بصورة ذهنية مغايرة للواقع، تقوم على اعتقاد أن التسريب والبيع هو الحالة السائدة، ولكن هذا مخالف للحقيقة مجاف للواقع، فما زال أهل القدس يقبضون على جمر الصبر في مواجهة المغريات والتهديدات على حد سواء، صابرين على مرارة العيش، لا يغريهم بريق الذهب ولا مغريات السماسرة. فالأصل هو التمسك والثبات، والتسريب هو الاستثناء الذي ما زال ممجوجا.
القسام والكف الأسود
في عام 1930، أسس الشيخ عز الدين القسام مجموعة سرية أطلق عليها اسم "الكف الأسود". كانت مهمة هذه المجموعة بالدرجة الأولى تتبع سماسرة الأراضي من العرب واليهود ممن يقومون بشراء ونقل وتشجيع ملكية الأراضي من العرب لليهود، واستهدافهم بالاغتيال.
وبعد استشهاده، تضعضعت أركان المجموعة، لكن من يزرع الوعي ويبني الجيل لا تنتهي أعماله بانتهاء حياته، فسرعان ما سارع أحد تلاميذه، وهو "سرور برهم"، إلى إعادة بناء المجموعة واستمرار ممارسة عملها الذي أقض مضاجع السماسرة من جهة، وشكل صورة ذهنية خطيرة عمن يفكر بهذا الفعل. فبنى حصانة مجتمعية واعية مبكرة ساهمت في الحفاظ على الأرض ومواجهة المغريات.
إعلان
فلم يكن الشيخ عز الدين القسام مجرد عالم أو واعظ أو خطيب، بل كان قائد ثورة يبني الوعي بين يدي المواجهة، ويحصن الأفهام، ويزرع الفهم، ويصدق القول بالفعل، ويروي كلماته بروحه لتنتفض بين الأنام وتبقى متحركة بلا كلل ولا ملل.

الحسيني ومؤتمر علماء فلسطين
وإن من أهم أدوات بناء الوعي في زمن الهجمة الصهيونية الأولى على العقارات في فلسطين عموما، والقدس على وجه الخصوص، في زمن الاحتلال البريطاني، العلماء والدعاة وما يملكون من أدوات مثل المنبر والمسجد والفتاوى.
وقد كان لهم دور بالغ الأهمية في تحصين العقل الجمعي الفلسطيني والعربي ضد انتقال العقارات إلى اليهود الذين يريدون مسح الهوية واحتلال الأرض والمقدسات.
فتضافر الفعل الجهادي العلني للشيخ القسام مع الفعل السري لمنظمته "الكف الأسود"، مع الجهد الدؤوب لعلماء ودعاة فلسطين، ومن ذلك عقد مؤتمر علماء فلسطين في القدس يوم 26 يناير/كانون الثاني 1935.
حضر المؤتمر حوالي 400 مندوب من المفتين والقضاة والمدرسين والخطباء والأئمة والوعاظ، وقد كان على رأس المجتمعين:
الحاج محمد أمين الحسيني، مفتي مدينة القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى. محمد أمين العوري، أمين فتوى القدس وعضو محكمة الاستئناف الشرعية. حسن أبو السعود، مفتي الشافعية ومفتي المحاكم الشرعية. ومحمد تفاحة الحسني، مفتي مدينة نابلس. محمد أسعد قدورة، مفتي صفد وقاضيها. محمد طاهر الطبري، مفتي طبريا وقاضيها. محمد أديب الخالدي، مفتي مدينة جنين. محمد سليم بسيسو، مفتي مدينة بئر السبع. إسماعيل الحافظ، رئيس محكمة الاستئناف الشرعية.لم يكن للمؤتمر سوى قضية واحدة لبحثها وهي بيع الأراضي لليهود، والأخطار الناجمة عنها، وموقف الشرع من هؤلاء الذين يتآمرون على ملكية أرض فلسطين وتسريب أراضي المسلمين لليهود.

وقد ألقى الحاج أمين الحسيني، رئيس المؤتمر، كلمة وجهها للحضور وللعالم الإسلامي كله قال فيها:
"ولنا كلمة إلى إخواننا في الأقطار العربية الإسلامية، وهي إذا ظلوا ينظرون إلى هذه المأساة، مأساة الأندلس الأخرى، غير مبالين ولا مكترثين، فإن موقفهم هذا لا يرضي الله ورسوله ولا يرضي تاريخ الإسلام الذي آخى بين المسلمين. وليعلموا أن المصيبة في هذه البلاد التي أوقعها سوء حظها بين براثن الطامعين، سوف لا تنحصر فيها بل تتعداها إلى الأقطار الإسلامية الأخرى"
لقد كان هذا المؤتمر نموذجا لحالة تأسيس الوعي المبكر بمخاطر تسريب العقارات لليهود، هذا البناء الذي غدا ثقافة عامة ترى من باع أرضه لليهود قد باع دينه ووجوده كله.
إعلان
وقد انتهى هذا المؤتمر إلى صدور فتوى بإجماع الحاضرين الموقعين عليها، جاء فيها: "بعد النظر في الفتاوى التي أصدرها المفتون وعلماء المسلمين في العراق ومصر والهند وسوريا وفلسطين والأقطار الإسلامية الأخرى التي أجمعت على تحريم بيع الأرض في فلسطين، وتحريم السمسرة على بيع الأرض، والتوسط فيه وتسهيل أمره بأي شكل وبأي صورة، وتحريم الرضا بذلك كله والسكوت عنه، وإن ذلك كله أصبح بالنسبة لكل فلسطيني صادرا من عالم بنتيجته راض بها، فهو مستلزم الكفر والارتداد عن دين الإسلام باعتقاد حله".
كما جاء فيها: "إن بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء كان ذلك مباشرة أو بالوساطة، فإن السمسار والمتوسط في هذا البيع والمسهل له والمساعد عليه بأي شكل؛ كل أولئك ينبغي ألا يصلى عليهم ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم وعدم التودد إليهم والتقرب منهم، ولو كانوا آباء وأبناء وإخوانا وأزواجا. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".
ولا تزال هذه المعركة الصامتة المتعلقة بمواجهة تسريب العقارات لليهود اليوم من أشرس المعارك، ولكن لا يلتفت لها الكثيرون لأنها معركة بلا أشلاء ولا دماء ولا بارود.
ولكنها معركة تستهدف تمزيق القدس على أشلاء متناثرة وإراقة دم المدينة التي كانت وما زالت محور الصراع على مر العصور، وأهل القدس الثابتون فيها ينتظرون أهلهم من أبناء أمتهم ليكونوا معهم في خندق المواجهة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق