في مشهد يعكس تغيرًا في موازين القوى العالمية وإعادة تشكيل التحالفات الاستراتيجية، تستعد العاصمة الروسية موسكو لاستضافة احتفال عيد النصر في 9 مايو، بحضور رفيع المستوى من قادة دوليين يمثلون قارات مختلفة، يتقدمهم الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ويأتي هذا الحدث في ظل اشتداد الحرب في أوكرانيا، وتصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن، وسط سعي روسي لتعزيز العلاقات مع حلفاء قدامى وجدد في مواجهة السياسات الغربية.
عيد النصر في روسيا
أعلن الكرملين، الثلاثاء، أن 29 زعيمًا أجنبيًا سيشاركون في العرض العسكري الذي ستقيمه روسيا في التاسع من مايو بمناسبة الذكرى الـ80 للانتصار في الحرب العالمية الثانية، والمعروف بـ"عيد النصر"، في الساحة الحمراء بموسكو.
ومن أبرز الحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وقال يوري أوشاكوف، مستشار الرئاسة الروسية، إن قوات من 13 دولة، من بينها الصين ومصر وميانمار، ستشارك في العرض العسكري، في خطوة تُظهر توجّه موسكو نحو تعزيز التحالفات مع شركاء خارج المعسكر الغربي، في ظل استمرار العزلة الغربية التي فُرضت على روسيا منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
وأوضح أوشاكوف أن القادة المشاركين في الاحتفال ينتمون إلى دول تشمل أذربيجان، أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، أوزبكستان، أبخازيا، البوسنة والهرسك، البرازيل، بوركينا فاسو، فنزويلا، فيتنام، غينيا بيساو، مصر، زيمبابوي، الصين، الكونغو، كوبا، لاوس، منغوليا، ميانمار، فلسطين، صربيا، سلوفاكيا، غينيا الاستوائية، إثيوبيا، وأوسيتيا الجنوبية.
وأضاف أوشاكوف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيعقد قمة ثنائية مع نظيره الصيني شي جين بينغ في موسكو يوم الخميس، ستتناول "القضايا الأكثر أهمية، وفي مقدمتها الملف الأوكراني والعلاقات الروسية الأميركية"، في ظل تصعيد متبادل بين موسكو وواشنطن على أكثر من صعيد.
كما كشف أن بوتين سيقوم بزيارة إلى الصين هذا الصيف، مرجحًا أن تتم الزيارة في أواخر أغسطس أو أوائل سبتمبر المقبل، في مؤشر على متانة العلاقات بين موسكو وبكين، وعلى تنسيق استراتيجي متصاعد في مواجهة ما تعتبره الدولتان محاولات تطويق غربية لنفوذهما.
السيسي يشارك في عيد النصر.. علاقات متينة وتوقيت حساس
من جانبه، غادر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي العاصمة اليونانية أثينا بعد زيارة رسمية، متوجهًا إلى موسكو للمشاركة في احتفالات عيد النصر، وذلك تلبية لدعوة شخصية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي هذا السياق، صرّح الدكتور محمد محمود مهران، أستاذ القانون الدولي وعضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، بأن مشاركة الرئيس السيسي في احتفالات النصر تمثل دلالة واضحة على عمق العلاقات بين القاهرة وموسكو، كما تعكس سياسة مصر الخارجية القائمة على التوازن والانفتاح على القوى الكبرى.
وأضاف مهران، في تصريحات خاصة لموقع "صدى البلد"، أن الزيارة تأتي في وقت استراتيجي حرج، يتسم بتحولات كبيرة في النظام الدولي، تتطلب من مصر توسيع دائرة شراكاتها بما يضمن حماية مصالحها الوطنية وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.
وأشار الخبير الدولي إلى أن العلاقات المصرية الروسية شهدت تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة على مختلف المستويات، خصوصًا في مجالات الطاقة والتصنيع العسكري والمشروعات الكبرى، مثل محطة الضبعة النووية والمنطقة الصناعية الروسية في محور قناة السويس.
وأكد أن دعوة بوتين للسيسي للمشاركة في هذا الحدث العسكري والسياسي المهم تمثل تأكيدًا على قوة العلاقات، كما تتزامن مع انضمام مصر رسميًا إلى مجموعة "بريكس" مطلع عام 2024، ما يفتح آفاقًا أوسع للتعاون متعدد الأطراف.
وأضاف مهران أن التنسيق المصري الروسي يمتد إلى ملفات إقليمية حساسة، أبرزها قضايا غزة والسودان وليبيا وأمن البحر الأحمر، وهو تنسيق يقوم على رؤية مشتركة بضرورة إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب قائم على العدالة واحترام السيادة.
مصر والسياسة الدولية
وشدد مهران على أن السياسة الخارجية المصرية تتبنى موقفًا مستقلًا ومتوازنًا يحترم قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لاسيما مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وحل النزاعات بالطرق السلمية.
وفي ضوء التحديات المتشابكة التي يواجهها العالم حاليًا، من حروب ونزاعات وتغيرات مناخية وأزمات غذائية، شدد مهران على أن العلاقات المصرية الروسية تمثل نموذجًا للتعاون القائم على المصالح المشتركة بعيدًا عن سياسات الهيمنة أو الاستقطاب.
واعتبر أن حضور مصر في موسكو لا ينفصل عن دورها المحوري في قضايا المنطقة، ولا سيما القضية الفلسطينية التي تشهد تصعيدًا غير مسبوق، مما يعزز أهمية الشراكة المصرية الروسية كإحدى ركائز أي حل سياسي محتمل.
وفي ختام تصريحاته، أكد مهران أن مستقبل العلاقات بين مصر وروسيا يعتمد على ترجمة التفاهمات السياسية إلى مشاريع ملموسة في مجالات التكنولوجيا والطاقة والأمن، وعلى استمرار التنسيق لمواجهة التحديات الدولية المعاصرة.
بينما تتجه أنظار العالم إلى موسكو في التاسع من مايو، لا يبدو العرض العسكري مجرد مناسبة رمزية لاستحضار الماضي، بل يمثل منصة سياسية كبرى تُعيد رسم خريطة التحالفات الدولية في ظل واقع جيوسياسي متغير. وتبقى المشاركة الواسعة في الحدث، وخصوصًا من قبل الصين ومصر ودول الجنوب العالمي، رسالة صريحة بأن النظام الدولي يتجه نحو المزيد من التعددية، بعيدًا عن قطبية أحادية أو فرض الإرادة من طرف واحد.
0 تعليق