القدس المحتلة – في الذكرى الـ77 للنكبة، لا تزال المعاناة الفلسطينية تتجدد، وهذه المرة في سياق دموي فرضته الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لم يقتصر أثر هذا العدوان على غزة، بل طال فلسطينيي الداخل، أبناء النكبة الأوائل، الذين وجدوا أنفسهم مجددا في دائرة الاستهداف، وسط محاولات متواصلة لطمس هويتهم الوطنية ومحو روايتهم التاريخية.
صعّدت الحكومة الإسرائيلية سياساتها التمييزية عبر سن تشريعات وإجراءات عنصرية جديدة، عمّقت تهميش الفلسطينيين في الداخل، الذين يعانون أصلا من تمييز وإهمال مزمنين.

سياسة الإقصاء
وشملت هذه السياسات فصل معلمين عرب بزعم دعم "الإرهاب"، وسحب التمويل من مدارس عربية، وقطع مخصصات الرعاية الاجتماعية عن أهالي الأطفال المدانين بمخالفات أمنية، فضلا عن تقليص الميزانيات المخصصة للبلدات العربية، ما وسّع الفجوة التنموية وأمعن في الإقصاء.
في الوقت نفسه، تفاقمت أزمة الجريمة في المجتمع العربي، فمنذ بداية عام 2025 وحتى مايو/أيار الحالي، قُتل 91 شخصا، بينهم 10 برصاص الشرطة الإسرائيلية، فيما سجل عام 2024 مقتل 221 شخصا، مقارنة بـ222 ضحية في سنة 2023.
كما أُصيب أكثر من 300 شخص في جرائم عنف شملت إطلاق نار وطعنا ودهسا، وتُتهم الشرطة الإسرائيلية بالتقاعس والتواطؤ مع عصابات الجريمة، ما عمّق شعور المواطنين العرب بالإهمال وعدم الأمان.

أما أزمة السكن، فتعكس بشكل صارخ سياسات التمييز في توزيع الموارد، ووفق المركز العربي للتخطيط البديل، فإن فلسطينيي الداخل، الذين يشكّلون نحو 20% من السكان، لا يمتلكون سوى 3% من الأراضي داخل الخط الأخضر، في حين تسيطر الدولة و"الصندوق القومي اليهودي" على 97%.
إعلان
وقد تقلّص احتياطي الأراضي المخصصة لفلسطينيي 48 بنسبة 50%، ما فاقم الضائقة السكنية، إذ تواجه 70 ألف وحدة سكنية عربية خطر الهدم بدعوى البناء دون ترخيص، في حين لا تملك 70% من العائلات أرضا للبناء، وسط حاجة لتوفير 120 ألف وحدة سكنية للأزواج الشباب.
وتبرز المعركة الأشد في النقب، حيث تسعى السلطات عبر "قانون برافر" إلى مصادرة 800 ألف دونم من أراضي بدو النقب، وهدم 35 قرية مسلوبة الاعتراف، لتهجير نحو 150 ألف نسمة.
في قرية العراقيب، التي هُدمت للمرة الـ240، يصر شيخها صياح الطوري على البقاء رغم كل محاولات التهجير، مؤكدا للجزيرة نت أنها كغيرها من القرى غير المعترف بها، تواجه تهجيرا قسريا متواصلا وصراعا يوميا للبقاء.
تمييز ممنهج
لا تقف السياسات الإسرائيلية عند الهدم، بل تمتد إلى التمييز الممنهج ضد نحو 1.9 مليون فلسطيني يعيشون في المدن والبلدات العربية داخل الخط الأخضر، فهؤلاء يواجهون تضييقا متزايدا على الحريات العامة، ومصادرة الأراضي، ومحاصرة بلداتهم بالمستوطنات اليهودية، وصولا إلى استهدافهم برصاص الشرطة.
يرى رئيس اللجنة الشعبية للدفاع عن الأرض والمسكن أحمد ملحم أن المرحلة الحالية شديدة الخطورة، ويقول للجزيرة نت إنه منذ بدء الحرب على غزة تضاعفت وتيرة الاعتقالات والملاحقات السياسية.
وأضاف للجزيرة نت "العشرات اعتُقلوا إداريا فقط بسبب منشورات تضامنية أو رفع علم فلسطين. اليوم حتى التعبير الرقمي مستهدف، والخطاب الوطني يعامل كجريمة، في ظل سياسة ممنهجة لإسكات الأصوات وتهميشها".
يعكس هذا التصعيد محاولة واضحة لنزع الهوية الوطنية عن فلسطينيي الداخل، وتجريم مشاركتهم السياسية والثقافية.
وتؤكد الناشطة ريم خطيب -من بلدة قلنسوة- أن النكبة ليست مجرد ذكرى، بل واقع يومي يعيشه الفلسطينيون. وتقول للجزيرة نت "نكبتنا مستمرة ما دامت بيوتنا مهددة بالهدم، وأطفالنا محرومين من أبسط الحقوق، وشبابنا ضحايا للعنف. الفرق الوحيد أن العالم لم يعد يلتفت لما يحدث".
إعلان
وتضيف أن الذكرى الـ77 تذكّرهم بأن ما بدأ عام 1948 لم ينتهِ، بل تطور إلى أشكال أكثر تعقيدا من القمع والإقصاء، دون أن ينجح في كسر الإرادة الفلسطينية، التي تتجلى في الوقفات الاحتجاجية وصمود الأسرى وأحلام أطفال النقب.
ساحات النضال
في هذا السياق، أصدر التجمع الطلابي الديمقراطي (جفرا) بيانا بمناسبة ذكرى للنكبة، حيّا فيه الحراك الطلابي الواسع، مثمّنا "جهود توحيد الصفوف وتعزيز العمل المشترك في ظل المرحلة الحرجة".
وأكد البيان -الذي تلقت الجزيرة نت نسخة منه- أن الأنشطة الطلابية تعكس تمسك الطلبة بهويتهم الوطنية رغم القمع، معتبرا أن الجامعة لا تزال ساحة للنضال والوعي السياسي.
وشدد على ضرورة مواصلة إحياء ذكرى النكبة داخل الجامعات الإسرائيلية، "رغم تكميم الأفواه وملاحقة النشاط السياسي"، مؤكدا التزامه بتحويل الجامعة إلى فضاء حر يعبّر عن نضال الطلاب الفلسطينيين الجماعي.
ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهد المجتمع العربي في الداخل تصاعدا غير مسبوق في الاعتقالات، حيث سجلت قرابة 2000 حالة، بينها عشرات الاعتقالات الإدارية بحق شبان بزعم "المساس بأمن الدولة".

ووفق معطيات حقوقية، فإن نحو 30 شابا من فلسطينيي الداخل يقبعون رهن الاعتقال الإداري دون محاكمة، معظمهم لفترات تصل إلى 6 أشهر، ما يعكس اتساع استخدام هذا الإجراء الاستثنائي لقمع الحريات.
ويشير مدير "مركز عدالة" المحامي حسن جبارين إلى أن هذه الظاهرة "التي كانت نادرة" أصبحت مقلقة. ويؤكد أن الفلسطينيين يواجهون حملة قمع منظمة لحرية التعبير، تقودها جهات حكومية ويمينية متطرفة، تستهدف حتى التعبير السلمي على وسائل التواصل الاجتماعي.
إعلان
وتوجّه النيابة العامة الإسرائيلية للمشاركين في الاحتجاجات تُهما مثل دعم "الإرهاب" أو التحريض، رغم أنها تندرج ضمن الحق المشروع في التعبير عن الرأي والتضامن الإنساني مع قطاع غزة.
وختم جبارين "في ذكرى النكبة، تتجدد الأسئلة حول الهوية، والحق، والعدالة. وبين هدم المنازل وكم الأفواه، تبقى الإرادة الفلسطينية حية، تنبض في كل من يصر على البقاء بوجه النسيان والتهميش والاقتلاع".
0 تعليق