شهاب الدين أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي المعروف بـ"أفوقاي" رحالة ومترجم ودبلوماسي موريسكي عاش في القرن الـ17، ينحدر من بلدة الحجر قرب غرناطة، وعاش مراحل طفولته وشبابه في بيئة قمعية حاولت طمس هويته الإسلامية، لكنه تمكن من الهروب إلى المغرب سنوات قليلة قبل صدور قرار الطرد النهائي لجميع الموريسكيين من شبه الجزيرة الإيبيرية عام 1609.
خدم في البلاط السعدي مترجما وكاتبا في ديوان السلطان، وكان له دور بارز في توثيق معاناة المسلمين في الأندلس، ومن أوائل من دونوا تجربة الشتات الأندلسي من منظور شخصي وموضوعي، وأبرزوا قدرتهم على التكيف مع الأوضاع الجديدة في المهجر.
لقب بـ"أفوقاي"، وهي كلمة تقول بعض الروايات إنها مشتقة من الكلمة الإسبانية "أبوغادو" وتعني المحامي، وأطلق عليه هذا اللقب بسبب دفاعه عن الموريسكيين في المحاكم الأوروبية، إذ بعثه سلطان مراكش إلى فرنسا وهولندا سفيرا للدفاع عن الموريسكيين الذين طردوا من إسبانيا ونهبت أموالهم وثرواتهم من السفن الفرنسية، وسعى إلى إيجاد دعم لقضيتهم لدى الحكومات الأوروبية واسترجاع ما نهب منهم.
وكانت له في هذه الرحلة مناظرات مع قساوسة ورهبان مسيحيين ومستشرقين أوروبيين دافع فيها عن الإسلام، وكشف زيف المعتقدات المسيحية معتمدا على معرفته باللاهوت المسيحي والواقع الأوروبي.
المولد والنشأة
ولد أحمد بن قاسم بن أحمد بن الفقيه قاسم بن الشيخ الحجري الأندلسي عام 977 هجري الموافق 1569 ميلادي في قرية الحجر الأحمر بغرناطة.
كان يعرف رسميا باسم "دييغو بيخارانو"، إذ أجبر الصليبيون المسلمين الأندلسيين على التنصر بعد سقوط غرناطة، وفرضوا عليهم أسماء إسبانية والابتعاد عن مظاهر الثقافة الإسلامية.
إعلان
حفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد والده، وتعلم التحدث باللغة العربية، ثم تعلم القراءة والكتابة بها سرا على يد قريب لوالده عندما بلغ العاشرة من عمره رغم أن تعلم العربية حينها كان ممنوعا ويعرّض صاحبه للمخاطر.
تعلّم مبادئ الدين المسيحي في الكنيسة، ودرس الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
وإلى جانب العربية كان يتقن الإسبانية والبرتغالية ويعرف شيئا من الفرنسية والإيطالية، نشأ في الأندلس وعانى مثل بقية الموريسكيين من تضييق ديني وثقافي.
وفي عام 1588 نال إعجاب أسقف غرناطة عندما نجح في ترجمة رقوق مسيحية قديمة مكتوبة بالعربية وجدت في جدار صومعة قديمة بعد هدمها.
حصل على مكافأة مالية وإذن بالترجمة من العربية إلى الإسبانية والعكس، كما أمره الأسقف بكتابة نسخة من الرق وإرسالها إلى البابا في روما.
ولتبرير معرفته باللغة العربية ادعى أنه تعلمها من طبيب بلنسي في مدريد، وكان ذلك مسموحا به لسكان بلنسية، في حين كان محظورا على غيرهم.
الرحيل إلى المغرب
في عام 1598 قرر الرحيل إلى المغرب هربا من تصاعد الاضطهاد ضد الموريسكيين وثقافتهم، وتحجج لأسقف غرناطة بأنه ذاهب لزيارة والده في إشبيلية، ثم سافر إلى البرتغال، ومنها ركب مع صديق له سفينة تجارية كانت تنقل الحبوب من ميناء سانتا ماريا إلى ميناء البريجة، وهي مدينة الجديدة المغربية حاليا، وكانت حينها تحت الاحتلال البرتغالي.
بعد وصولهما اختفيا عن الأنظار وهربا خارج أسوار مدينة الجديدة، وظلا يمشيان أياما إلى أن التقيا بمزارعين قدّموا لهما الخبز والماء، وأخذوهما إلى قائد المدينة محمد بن إبراهيم السفياني.
استقبلهما القائد بحفاوة، وأرسل رسالة إلى السلطان السعدي أحمد الذهبي يخبره فيها قصتهما، فأمره بإحضارهما معه إلى قصره في مراكش بمناسبة الاحتفالات بعيد الأضحى، وهناك حظيا بمقابلة السلطان.
إعلان
استقر شهاب الدين في مراكش وهو في الـ30 من عمره، تزوج وأنجب ولدين وبنتين من ابنة البرطال الغرناطي أحد قادة ثورة البشرات، وهي ثورة قادها المسلمون آنذاك في مملكة غرناطة ضد الحكام الكاثوليكيين.
الحياة العملية
أثناء إقامته في مراكش -والتي استمرت من عام 1598 إلى 1636- عمل مترجما في بلاط السلطان المنصور الذهبي ثم لدى السلطان زيدان وابنيه عبد الملك والوليد.
في عام 1611 أرسله السلطان زيدان سفيرا إلى أوروبا للدفاع أمام المحاكم الأوروبية عن حقوق الموريسكيين الذين نهبت ممتلكاتهم من السفن الفرنسية، وقد لقب بعد هذه المهمة بـ"أفوقاي".
وكان الموريسكيون -الذي طردوا نهائيا من كل مناطق شبه الجزيرة الإيبيرية بقرار من الملك فيليب الثالث عام 1609- استأجروا بعض السفن الفرنسية لتنقلهم إلى المغرب، فنهبهم ربابنة تلك السفن وأخذوا كل ما حملوه معهم بعد أن أنزلوهم في السواحل المغربية.
قصد أولئك الموريسكيون السلطان زيدان في مراكش، وطلبوا منه أن يأمر بإرسال وفد منهم إلى أوروبا لاسترداد ممتلكاتهم المنهوبة، فبعث شهاب الدين على رأس وفد يضم 5 من الرجال الأندلسيين المنهوبة ممتلكاتهم، واتجهوا إلى آسفي، ومنها أبحروا إلى فرنسا ثم هولندا.
أثناء رحلته التقى قساوسة ومستشرقين أوروبيين، وجرت بينه وبينهم مناظرات ومحاورات دينية، وقد ساعدته في ذلك معرفته بالدين المسيحي والتوراة والإنجيل بنسخه المختلفة.
وقد استمرت المحاورات بينه وبينهم حتى بعد عودته إلى المغرب، إذ كان يتبادل معهم الرسائل التي ظلت محفوظة في الأرشيف الأوروبي وتمت ترجمتها إلى لغات عدة.
بعد عودته من أوروبا عام 1613 واصل عمله مترجما وكاتبا في ديوان السلطان، إذ كان يكتب الرسائل ويترجم تلك الواردة، إلى جانب ترجمة بعض الكتب العلمية الى اللغة العربية.
رحلة الحج
قرر أفوقاي زيارة الحرمين الشريفين عام 1636، وكان المغرب في ذلك الوقت يشهد اضطرابات سياسية، وبعد أدائه فريضة الحج توقف في طريق عودته في مصر وأقام فيها فترة قصيرة.
إعلان
عمل في القاهرة في دكان أحد الأندلسيين، والتقى بعدد من علماء الأزهر، وعلى رأسهم شيخ المالكية علي الأجهوري الذي استمع إلى قصص رحلاته في أوروبا ومناظراته مع المستشرقين الأوروبيين، فأشار عليه بتدوينها في كتاب.
غادر مصر إلى تونس وكان في الـ70 من عمره، وهناك انقطعت أخباره، ولا يعرف تاريخ وفاته أو مكان دفنه.
المؤلفات
يعد كتاب "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب" المعروف أيضا بـ"رحلة أفوقاي الأندلسي" من أبرز أعماله، وفيه عرض سيرته الذاتية ومعاناة الموريسكيين في الأندلس والظروف التي رافقت فراره إلى المغرب، ثم رحلته إلى هولندا وفرنسا ووصفه مدنهما.
كما ضم الكتاب مناظرات أفوقاي مع المستشرقين الأوروبيين بشأن قضايا دينية، لكن الكتاب مفقود ولم يعثر إلا على شذرات منه ضمن مخطوط بعنوان "زهرة البستان في نسب أخوال سيدنا المولى زيدان".
كما كتب مختصرا له بعنوان "ناصر الدين على القوم الكافرين" ركز فيه على عرض مناظراته مع المستشرقين الأوروبيين والرهبان بشأن عدد من القضايا الدينية، مثل عقيدة التثليث وتأليه النبي عيسى وقضية الفداء وتحريف الكتب المقدسة.
وتوجد نسخة من هذا الكتاب بخط يده محفوظة في دار الكتب بالقاهرة، وأخرى محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، وكانت في الأصل ملكا للمستشرق الفرنسي جورج كولان.
ويقول محقق هذا الكتاب محمد رزوق في مقدمته "يعد كتاب ناصر الدين أهم مصدر تاريخي أندلسي كتب بعد صدور قرار الأندلسيين المتبقين بالأندلس، فصاحبه يتكلم وهو بمنأى عن محاكم التفتيش، يجادل المسيحيين واليهود، ويستعرض من خلال ذلك ما فعله الإسبان بالموريسكيين وظروف انتقال هؤلاء إلى شمال أفريقيا".
ومن أعماله المعروفة أيضا ترجمته كتابا في المدفعية ألّفه بالإسبانية بحار موريسكي استقر في تونس بعد خروجه من الأندلس يدعى إبراهيم بن غانم الرياش، مطلعا على فن المدفعية ومهتما به.
إعلان
وقد التقى الحجري بالرياش واطلع على كتابه، وترجمه إلى العربية بعنوان "العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع".
كما ترجم أيضا "الرسالة الزكوتية"، وهي رسالة كتبها موريسكي آخر يدعى إبراهيم السلمنقي، واشتملت على شكاوى الموريسكيين ومواقفهم.
0 تعليق