في لحظة تثير الدهشة وتقلب مفاهيمنا التقليدية حول عالم النبات، كشفت دراسة علمية حديثة أن أشجار التنوب في جبال الدولوميت الإيطالية لا تكتفي بالاستجابة للكسوف الشمسي، بل تتوقع حدوثه، وتتفاعل معا في تناغم كهربي عجيب قبل ساعات من الحدث الفلكي الكبير.
نُشرت نتائج هذه الدراسة في مجلة "رويال سوسايتي أوبن ساينس"، وقادها فريق دولي من الباحثين من إيطاليا والمملكة المتحدة وإسبانيا وأستراليا.
وإذا صدقت هذه النتائج بعد مزيد من البحث لتأكيدها، فإنها ستمثل نقلة نوعية في فهمنا لسلوك الغابة، حيث تظهر النباتات بغير الصورة السلبية الصامتة التي اعتدناها، بل تمتلك قدرات تواصل وتنسيق قد تُضاهي وتفوق ما نراه في عالم الحيوان.

الغابة كوحدة نابضة
استخدم الفريق البحثي أجهزة استشعار كهربائية خاصة، مصممة للعمل في ظروف قاسية، ووزعها على مساحة أقل من هكتار داخل غابة تنوب على ارتفاع 1950 مترا عن سطح البحر. وتم تسجيل إشارات بيولوجية كهربائية من عدة أشجار وأجزاء مختلفة منها، ومقارنتها على مدار الزمن، وبشكل خاص قبل الكسوف الشمسي.
ويوضح أليساندرو كيوليريو، الباحث في المعهد الإيطالي للتكنولوجيا والمؤلف الرئيسي في الدراسة، أن ما تم قياسه يُعرف باسم الإلكتروم، وهو إشارة كهربائية بيولوجية شبيهة بتلك التي يتم قياسها في الدماغ البشري باستخدام جهاز تخطيط الدماغ الطبي. ويُمكن قياس الإلكتروم باختراق لحاء شجرة بضعة سنتيمترات، ووضع قضيب فولاذي هناك، مُتصل بأجهزة قياس.
ويقول كيوليريو في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "تخيل أن كل نبتة تُنتج فرق جهد كهربائي بين نقطتين، مثل البطارية. لكن هذا الجهد لا يبقى ثابتا، بل يتغير بتغير العوامل الخارجية كدرجة الحرارة والأمطار، وغيرها". ويضيف: "عندما تحدث ظاهرة مثل الكسوف، تتغير هذه الإشارات بين الأشجار بطريقة يمكن تتبع بدايتها قبل حدوث الكسوف بما يصل إلى 14 ساعة".
إعلان
وتشير النتائج الأولية إلى أن الأشجار الأكبر سنا تُظهر استجابة مبكرة وأقوى للكسوف، مقارنة بالأشجار الأصغر. وهذا ما يثير تساؤلات عما إذا كانت هذه الأشجار تمتلك نوعا من "الذاكرة البيئية".

ذاكرة الأشجار حقيقة أم خيال؟
يتعامل كيوليريو مع هذا الاحتمال بحذر كبير، ويقول: "لا يمكنني استبعاد أي خيار، ولا يمكنني تأكيد أي منها أيضا. يجب أن أكون حذرا جدا في النظر إلى ما هو موجود، لا إلى ما أود رؤيته. فالعقل البشري قد يُخدع بسهولة. فإذا كانت الإشارة الكهربائية في الأشجار الأكبر أقوى، فقد يكون هذا ببساطة ناتجا عن اختلاف في استجاباتها الفسيولوجية. أما إذا كانت هناك ذاكرة بالفعل، فأقترح النظر في نظرية الحقل الكمومي لفهم الآليات المحتملة".
ووفقا لنظرية الشبكة، لا يمكن التمييز بين السلوك التوقعي الحقيقي والاستجابة البيئية إلا من خلال إجراء تحفيز محلي. فإذا أدى ذلك إلى استجابة واحدة، فهذا يعني أنها استجابة بيئية. وأما إذا أدى إلى استجابة جماعية، فهذا يعني أن السلوك صحيح. وهناك حاجة إلى مزيد من التجارب في هذه المرحلة، بحسب الباحثين.
ويتضح من ذلك أن الدراسة تتعرض لعملية الرصد وليس التفسير، فيشير كيوليريو إلى أن تحليل هذه الإشارات الكهربائية المتغيرة باستمرار يتطلب أدوات متقدمة، ويقول: "تخيل أنك ترى شكل موجة ترتجف على الشاشة، وتُسجَّل 5 موجات كهذه لكل شجرة تحت المراقبة. حتى صورة ثابتة من هذا المشهد تُعد معقدة جدا لتحليلها بشكل يدوي".
ويقيس الفريق عددا من المعايير المناخية، مثل درجة الحرارة، وسرعة الرياح واتجاهها، والرطوبة النسبية، ورطوبة الأوراق، والإشعاع الشمسي، والضغط، وهطول الأمطار. وبحسب الأرقام، لم تُمثل درجات الحرارة والإشعاع الشمسي مصدرا مرتبطا بالتغيّر.
ودفعت تلك البيانات غير المفسرة الفريق البحثي إلى الاستعانة بالخوارزميات الرياضية والتعلم الآلي، لتحويل هذه البيانات المعقدة إلى أرقام بسيطة وأنماط ذات مغزى. ومن بين هذه الأدوات مفهوم "الإنتروبيا"، وهو مقياس يعبر عن مدى تعقيد الإشارة ومقدار المعلومات التي تحملها.

فيزياء الغابة
يقول جوزيبي فيتييلو، الباحث في قسم الفيزياء من جامعة ساليرنو الإيطالية، والمشارك في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة: "عند دراسة الأشجار، لا بد من مراعاة أن حياتها تتطور ضمن نطاق محدد من درجات الحرارة. لذا، من الطبيعي، بل من الضروري، مراعاة الديناميكا الحرارية المرتبطة بها، حيث يلعب تبادل الطاقة والحرارة مع البيئة دورا مهما. لذلك، يجب مراعاة اختلافات درجات حرارتها لكل درجة حرارة، والتي تُعرف بطبيعتها بالإنتروبيا".
إعلان
فعندما تخلط الحليب بالماء، لن يمكنك فصلهما بعد الخلط، فحالة كل منهما كانت مستقرة، ولكن بعد الخلط سادت الفوضى أو الإنتروبيا وعجزنا عن فصل المكونات إلى أصلها.
كذلك في الغابة، فعندما تكون الغابة في حالة طبيعية، تختلف الإشارات من شجرة لأخرى. لكن مع اقتراب الكسوف، تصبح الإشارات أكثر تشابها وتناغما تدريجيا. وهذا يشير إلى انخفاض في الإنتروبيا، أي أن النظام (الغابة) أصبح أكثر تنسيقا وتناغما.
ويستلهم الفريق رؤية أخرى من نظرية الحقل الكمومي، التي تقول إن كل شيء في الكون عبارة عن مجال، وهذه المجالات تتفاعل فيما بينها باستمرار. حتى الجسيمات نفسها ليست سوى اهتزازات صغيرة في هذه المجالات.
ويقول كيوليريو: "من خلال رؤية نظرية الحقل الكمومي، يمكننا أن نرى الغابة على أنها كائن جماعي، حيث كل نبتة تعمل مثل آلة موسيقية تعزف بتناغم داخل أوركسترا".
ويضيف فيتييلو: "تتناول القياسات التجريبية سلوك المكونات الجزيئية مثل جزيئات الماء، والجزيئات اللمفاوية، وغيرها، بالإضافة إلى ثنائيات أقطابها الكهربائية، وتوزيعات شحناتها، وبالتالي، فإن الأدوات النظرية الوحيدة المتاحة للتعامل معها هي نظريات الكم. فعدد هذه المكونات كبير للغاية، وعند درجة حرارة غير صفرية، وبالتالي فإن الرياضيات المستخدمة هي تلك المستخدمة في نظرية المجال الكمومي عند درجة حرارة محدودة، وهي في الواقع الرياضيات المستخدمة في عملنا".
وفي سياق أوسع، يرى كيوليريو أن هذه الدراسة، التي أطلق عليها "تجربة الغابة السيبرانية"، تُمثل خطوة فريدة في دراسة تواصل النباتات تحت ظروف حقيقية ميدانية.
أما الخطوة التالية، فيصفها كيوليريو بأنها طموحة لكنها قابلة للتحقيق، ويقول: "نحن نتطلع لتكرار الدراسة في موقع آخر وخلال كسوف آخر للتحقق من النتائج. وعلى المدى الأبعد، وربما أقرب إلى الخيال العلمي، نطمح إلى تحقيق تواصل حقيقي وثنائي الاتجاه مع النباتات. وأنا أؤمن بصدق أن هذا ممكن!".
إعلان
غياب التفسير عن الظاهرة يحيط الدراسة ببعض الغموض والشكوكية العلمية، لكنها تكشف أن النباتات ربما ليست تلك الكائنات الساكنة التي لطالما ظنناها، بل كيانات تمتلك قدرة على التفاعل الجماعي، وربما على التعلم والتذكر. وقد تكون هذه الخطوة تمهيدا لعصر جديد من التفاعل بين الإنسان والطبيعة، ليس فقط من خلال المنفعة، بل من خلال الحوار. فهل سنشهد مستقبلا تتحدث فيه الأشجار إلينا بشكل ما؟ يبدو أن الجواب ما زال عصيا.
0 تعليق