على الرغم من أنه يحمل درجة الدكتوراه في تخصص المناهج وأساليب التدريس العامة فإنه ينهض بفخر تقديم القهوة والشاي في المناسبات العامة لقاء أجر، ويرسم بلباسه العربي الأصيل البهجة على وجوه الحاضرين، ويواسي من فقدوا عزيزا عليهم بلمسات إنسانية دافئة.
إنه الدكتور باسم الشمايلة ابن الكرك الأبية رئيس ديوان كلية الحقوق في جامعة مؤتة جنوبي المملكة، والذي يؤكد في حديثه للجزيرة نت أنه لا يعترف بثقافة العيب، بل يشطبها من قاموس حياته ويتمرد عليها بكبرياء، ولا يشعر بالخجل من تقديم فنجان قهوة في مناسبة عامة، قائلا "لا أشعر بمشيئة الله تعالى بأدنى درجات الخجل".
ويضيف بثقة واعتزاز "لا أتنكر أو أتنصل من هذا العمل، إنه عمل حلال، وعمل شريف يؤمّن لقمة شريفة، ويحظى بكثير من الاحترام والتقدير، وقد ضمن لي ولأسرتي المكونة من 5 أفراد حياة كريمة، ولبى احتياجاتنا المعيشية والتعليمية، فلم أمدّ يدي لأي إنسان طلبا للمساعدة، وكان سببا في حصولي على الشهادات الجامعية، وآخرها درجة الدكتوراه عام 2022".
ويتابع الشمايلة حديثه: في الدين لا عيب فيما تعمله سوى الحرام "فالحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس"، أريد لقمة العيش بالحلال، ولو كنت أسعى وراء الحرام لاشتغلت في الفنادق والبارات والمطاعم والشواطئ والمسابح في عمّان والعقبة، لكنني حريص على إسعاد أسرتي والوفاء باحتياجاتها بما أحله الله تعالى".
إعلان
ويقول "أمضيت مشوار حياتي عصاميا معتمدا على قدراتي الخاصة، طوبة طوبة، وخطوة خطوة، ودرجة درجة، ألم يقل إن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة، شريطة توفر الإرادة والتصميم؟ وفي الحقيقة، هذا شعاري وفلسفتي في الحياة "المهم أن تبدأ، وإن تعثرت فانهض وابدأ من جديد".
وتساءل الدكتور الشمايلة "كيف يخجل أحد من عمل الحلال؟ علينا السعي بجد واجتهاد نحو الرزق الحلال أيا كان العمل، فلا مكان لثقافة العيب من ممارسة عمل معين".
وأضاف "ما الذي يمنع الخريجين الجامعيين من العمل في محطة للمشتقات البترولية إلى حين توفر الفرصة المناسبة؟ لكن شبابنا يريدون مكتبا مكيفا وإصدار التعليمات لمرؤوسيهم، وهذا هو السبب في تكدس طوابير العاطلين عن العمل!".
ويستطرد قائلا "شخصيا، سأواصل مشواري المهني، ولن أتوقف عن تقديم القهوة والشاي إلا في حالتين هما المرض والموت، ولدي مشروعي الخاص بعد الإحالة على التقاعد، ويتمثل في تطوير هذا العمل وتوظيف 100 مواطن ومواطنة، وتوفير حافلات لنقلهم إلى مختلف مناطق المملكة، وحاليا، أقدم دورات في التنمية البشرية لطلبة الحقوق والمجتمع المحلي حول مهارات الاتصال والتواصل، وذلك على نفقتي الخاصة".
وفي معرض رده على سؤال قال الدكتور الشمايلة "بالتأكيد، هناك مواقف إيجابية تظهر الكثير من الاحترام والتقدير لموقفي الرافض لثقافة العيب وعدم النظر إلى الوراء، فكثير من الناس يوصلون رسائل لأبنائهم مفادها "دكتور يقدم القهوة، وأنتم تحملون شهادات جامعية، وها أنتم في الشارع!'".
واستدرك قائلا عن السلبيين "أعوذ بالله منهم، أبتعد عنهم، يحاولون الكيد "من تحت الطاولة"، "ما يخلّوا مركب ساير"، فهم موجودون في كل مؤسسة، لكني لا ألتفت إليهم.. مقتنع بعملي ولا أبالي، فقد تخطيت ثقافة العيب بلقمة شريفة ولغايات شريفة، وبنيت بيتا زوجيا متماسكا وعائلة سعيدة".

أسرتي تدعمني وتساندني
وبشأن موقف الأسرة، يوضح الدكتور الشمايلة بفخر واعتزاز قائلا "لم أجد ما يسمى "تنمرا" أو نظرة سلبية أو تشاؤما من عملي بعد دوامي الرسمي في جامعة مؤتة رئيسا لديوان كلية الحقوق، بل كانت ولا تزال نظرتهم إيجابية، فأمي تدعو لي دائما "‘الله يرضى عليك ويوفقك"، وزوجتي تردد "الله يرزقك وتساعد الأولاد".
إعلان
وختم حديثه مخاطبا طوابير الخريجين "شمروا عن سواعدكم وتمردوا على ثقافة العيب واعملوا بشرف، وانظروا للأشقاء المصريين الذين يعملون في الأردن، يحصلون على أكثر من 40 دينارا يوميا مقابل جهدهم وتعبهم.. لا يتكبرون عن أي عمل، تراهم ينظفون الحدائق وخزانات المياه والسيارات ويحرسون العمارات، وكل واحد يعمل في أكثر من مهنة".
نموذج مشرف للأجيال
وعلى صعيد متصل، أزجى الدكتور محمد عمايرة تحية للدكتور الشمايلة لرفضه ما تسمى "ثقافة العيب"، وتمسكه بمحاربتها واستمراره في عمله البسيط على الرغم من حصوله على شهادة الدكتوراه، وبذلك شكّل نموذجا مشرفا للأجيال الشابة في مواجهة "ثقافة العيب" عمليا لا نظريا أو فكريا.
وقال عمايرة للجزيرة نت "ننظر لهذا النموذج الساطع المشرف الرافض لثقافة العيب بإعجاب وتقدير وكل الاحترام".
وأضاف أن "ثقافة العيب" التي يلتصق بها كثيرون هي ظاهرة وسلوك اجتماعي كان ولا يزال سائدا في كثير من بلداننا العربية، إذ يعتبر كثيرون أن بعض المهن والأعمال والحرف البسيطة تمس بالكرامة أو تشكل إهانة اجتماعية لمن يمتهنها.
وقال عمايرة إن هناك سلوكيات اجتماعية عديدة يعتبرها بعض الناس من ثقافة العيب، وإن كثيرا من هذه السلوكيات أصبحت خارج إطار "ثقافة العيب"، ولم يعد سلوكها معيبا لدى كثير من الفئات الاجتماعية.
ومع أن "ثقافة العيب" -والحديث للدكتور عمايرة- تشمل مهنا وحرفا وأعمالا يدوية مختلفة فإنها تطال أيضا بعض العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية التي أصبحت تتعارض مع توجهات العصر الحالي.

وأضاف عمايرة أن الدكتور الشمايلة انتهج نهجا جديدا واقعيا في رفض ظاهرة العيب الاجتماعي والتصدي لها مباشرة وبإصرار، وسيلقى كل الترحيب والدعم والمؤازرة من مختلف الناشطين الاجتماعيين والطبقات الاجتماعية والمؤثرين في الرأي العام، فكثير من المهن والأعمال التي كانت تندرج تحت مسمى "ثقافة العيب" في العقود الماضية لم تعد كذلك في وقتنا الحاضر إلا لدى قلة قليلة جدا من الشباب.
وأشار في حديثه للجزيرة نت إلى ظاهرة مضادة لهذه الثقافة المزعومة برزت إلى الوجود خلال فترة انتشار مرض كورونا في السنوات الخمس الماضية، ومنها توجه بعض طلبة الجامعات وخريجيها الجدد الباحثين عن وظائف في القطاعين العام والخاص إلى العمل المؤقت في مجال خدمة توصيل الطلبات إلى البيوت خلال الجائحة، واستمرار كثيرين فيها دون تردد.
إعلان
التقدم الاجتماعي وثقافة العيب
كما أن ميل العديد من الشباب إلى العمل المهني كالحدادة والنجارة وإصلاح المركبات والبناء وغيرها جعل سوية هذه الأعمال ترتفع لدى الكثير من الفئات الاجتماعية التي كانت تنتقص من هذه الأعمال التي تدر عائدا ماليا مرتفعا، فازدياد مستوى الوعي الاجتماعي لدى الشباب قد أسهم كثيرا في خلق فرص عمل جديدة في مجالات أقلع الناس عن اعتبارها عيبا، كمهنة عامل وطن "عمال النظافة" التي كان الناس ينظرون إليها نظرة دونية قد أخرجت من هذا التصنيف نهائيا.
وختم حديثه بالقول إن التقدم الاجتماعي المطرد الذي تشهده بلادنا العربية عموما، والأردن خصوصا كفيل بزوال "ثقافة العيب" تدريجيا، خاصة أن هناك نماذج إيجابية عديدة يشار إليها بالبنان تقديرا واحتراما قد انخرطت في مواجهة حقيقية مع الظاهرة التي تلقى رفضا متزايدا عن قناعة تامة.
ملهم لجيل الشباب
من جانبها، ترى الإعلامية المعروفة فلحة بريزات أن تحرير الإرادة من ثقافة العيب هو ما فعله تماما رئيس ديوان كلية الحقوق في جامعة مؤتة الدكتور باسم الشمايلة، حيث اختار وعن قناعة تامة مهنة إضافية وجدها تعينه على إكمال رسالته في الحياة كمعيل لأسرة تتكون من 5 أفراد ما زال الطريق أمامهم طويلا لاستكمال مسيرة حياتهم، لقد ذهب بعيدا في اختياره عملا يدر عليه دخلا إضافيا يكفيه حاجة السؤال والشكوى في ظل ارتفاع تكاليف الحياة ومتطلباتها.
وقالت بريزات -التي وجدت متعة في رعي الأغنام في الصبا وتتربع حاليا في قمة الأداء الإعلامي- للجزيرة نت إن انحياز الدكتور الشمايلة إلى خيار تقديم القهوة والشاي في المناسبات العامة كرافض لثقافة العيب أتاح له إتمام دراسته العليا والحصول على شهادة الدكتوراه، إلى جانب تأمين حياة كريمة مستقرة لعائلته.
كما مكنه هذا الخيار -الذي لاقى ترحيبا كبيرا وتقديرا- من بناء علاقة اجتماعية مع محيطه مبنية على الاحترام والإعجاب، فعندما يذهب من يحمل درجة الدكتوراه إلى توسيع خياراته في العمل بعيدا عن المتعارف عليه فهذا بالضرورة يؤسس لفهم جديد في فلسفة العمل، بعيدا عن انتظار التعيينات التي تغيب عنها العدالة في بعض الأحيان بـ"أن لا عيب في العمل النظيف، وأن يصبح ملهما لكثير من الشباب".
إعلان
ومن وجهة نظر بريزات، فإن الدكتور الشمايلة بانحيازه التام إلى هذا الخيار أسس -بلا شك- لقيمة مضافة وضعها أمام جيل الشباب المتعطلين عن العمل، موجها لهم بعاطفة الأبوة رسالة مفادها "ألا ينتظروا وظيفة قد تحضر أو تغيب، فهذا حلم أصبح بعيد المنال في ظل بطالة فاقت حدود السماء".
وزارة العمل: ثقافة العيب تلاشت
بدوره، قال الناطق الإعلامي لوزارة العمل محمد الزيود إن ثقافة العيب تلاشت تقريبا في المجتمع الأردني، بدليل أن الكثير من الشباب يُقبلون على العمل بمهنة "عامل وطن" في البلديات، ولم يعد هناك أي رفض لمثل هذه المهن.

وأضاف الزيود أن الوزارة تشرف على تنفيذ مبادرة ملكية تسمى "الوحدات والفروع الإنتاجية"، وهي فروع لمصانع رئيسية في الأردن بمختلف القطاعات يتم إنشاؤها في ألوية ومحافظات الأردن، ويبلغ عددها 30 وحدة وفرعا إنتاجيا، يعمل فيها ما يقارب 10 آلاف عامل وعاملة من الأردنيين.
وأوضح أن الباحثات والباحثين عن العمل من الشباب الأردنيين اليوم يركزون على بيئة العمل وقيمة الأجر بغض النظر عن اسم فرصة العمل المتوفرة، وعلى الرغم من ذلك فإننا ما زلنا بحاجة إلى توعية الأهالي بأهمية التعليم المهني والتقني في توفير فرص عمل لأبنائهم توفر لهم حياة معيشية كريمة.
وأشار إلى أن مديرية التشغيل في وزارة العمل وأقسام التشغيل في المحافظات توفر الإرشاد المهني للباحثين عن العمل، موضحا أن مؤسسة التدريب المهني قد طورت برامجها التدريبية، كما طورت معاهدها ومراكزها التدريبية لتدريب الشباب على أبرز احتياجات سوق العمل من المهارات المطلوبة للعمل المهني والتقني.
0 تعليق