يُعد فيروس "شيكونغونيا" أحد الفيروسات المنقولة عبر البعوض والتي تنتشر في مناطق واسعة من العالم، ويتسبب في مرض حاد يتميز بالحمى المفاجئة وآلام المفاصل الشديدة. ورغم تعافي معظم المرضى خلال أسابيع، إلا أن نسبة كبيرة منهم تستمر معاناتهم من آلام مزمنة في المفاصل لأشهر أو حتى سنوات.
وقد كشفت دراسة حديثة عن آلية مناعية غير معتادة تقف خلف هذه الظاهرة، حيث تلعب الخلايا التائية المساعدة (CD4+) دورًا محوريًا في تحفيز استجابة التهابية طويلة الأمد تشبه تلك المرتبطة بأمراض المناعة الذاتية، مثل التهاب المفاصل الروماتويدي. وتلقي هذه النتائج الضوء على الرابط الخفي بين العدوى الفيروسية العابرة والتغيرات المناعية المزمنة، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهم الأمراض المزمنة وتطوير علاجات أكثر فعالية لها.
ورغم أن معظم الحالات تشفى تلقائيا خلال أسبوع إلى أسبوعين، إلا أن ما يقارب 30-40% من المرضى قد يعانون من آلام مفصلية مزمنة تستمر لشهور أو حتى سنوات، مع احتمال تطور التهاب مفاصل شبيه بالروماتويد لدى بعضهم.
وتمهد نتائج الدراسة الجديدة التي نشرتها مجلة Cell Reports Medicine، الطريق لفهم أعمق للعلاقة المعقدة بين هذه العدوى الفيروسية وأمراض المناعة الذاتية.
واعتمدت الدراسة التي أجراها فريق من معهد لا جولا لعلم المناعة، على تحليل عينات دم من مرضى تعرضوا لعدوى شيكونغونيا في كولومبيا، حيث تتبع الباحثون سلوك الخلايا المناعية وخاصة الخلايا التائية المساعدة (CD4+) في مواجهة الفيروس.
وما أثار دهشة الفريق البحثي هو اكتشاف أن هذه الخلايا تحديدا - وليس الخلايا التائية القاتلة (CD8+) كما هو متوقع - هي التي تقود المعركة ضد الفيروس وتستمر في الجسم لسنوات طويلة بعد زوال العدوى.
وتوضح البيانات أن 87% من المرضى احتفظوا بوجود هذه الخلايا في دمائهم بعد ست سنوات من الإصابة الأولية، في حين لم تكتشف الخلايا القاتلة إلا لدى 13% فقط من الحالات. والأكثر إثارة أن هذه الخلايا المساعدة تتحول إلى نمط "أحادي الوظيفة"، حيث تفرز بشكل أساسي جزيء TNF-alpha الالتهابي بشكل مستمر، حتى بعد القضاء على الفيروس.
وهذا السلوك غير الطبيعي للخلايا المناعية يشبه إلى حد كبير ما نراه في أمراض المناعة الذاتية، حيث يهاجم الجهاز المناعي أنسجة الجسم السليمة.
وتقول الدكتورة دانييلا وايسكوبف، الباحثة الرئيسية في الدراسة: "عادة ما نتوقع رؤية هذا النمط من الاستجابة المناعية في الأمراض الذاتية مثل التهاب المفاصل الروماتويدي، وليس في حالات العدوى الفيروسية". وهذا الاكتشاف يقدم تفسيرا علميا مقنعا لمعاناة العديد من المرضى من آلام مفصلية مزمنة قد تستمر لسنوات بعد الإصابة بالفيروس.
وتكتسب هذه النتائج أهمية خاصة في ضوء الانتشار الواسع للفيروس في أكثر من 110 دولة، وتشابه الأعراض التي يسببها مع حالات أخرى مثل "كوفيد طويل الأمد" والآثار طويلة المدى لحمى الضنك.
كما تفتح الباب أمام تطوير علاجات أكثر دقة تستهدف مسارات الالتهاب المحددة هذه، وربما استخدام أدوية مثبطة لـ TNF-alpha التي أثبتت فعاليتها في بعض أمراض المناعة الذاتية.
وفي هذا السياق، تجري الباحثة ريمجيم أجاروال حاليا دراسات متعمقة لفهم سبب تأثر النساء في سن الأربعينيات بشكل خاص بهذه الآلام المزمنة بعد الإصابة، وهو ما قد يكشف عن تفاعلات معقدة بين الهرمونات والاستجابة المناعية.
وهذه الأبحاث تمثل خطوة مهمة نحو فك شفرة واحدة من أكثر الظواهر الطبية إثارة للحيرة، وهي كيف يمكن لعدوى فيروسية عابرة أن تترك آثارا دائمة في جهاز المناعة، وتحوله إلى مصدر لأمراض مزمنة. كما تبرز أهمية الاستثمار في الأبحاث الأساسية التي تكشف الآليات الجزيئية للأمراض، والتي قد تقود إلى علاجات ثورية في المستقبل.
نقلا عن روسيا اليوم
يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل
0 تعليق