مع تناقص الموارد الطبيعية للمعادن الثمينة وتزايد الطلب العالمي عليها، طوّر فريق من الباحثين الفنلنديين طريقة ثورية وصديقة للبيئة لإعادة تدوير الفضة من النفايات الإلكترونية باستخدام زيوت الطهو.
تعتمد هذه الطريقة على استخدام الأحماض الدهنية للزيوت النباتية الشائعة والضوء، وتعد بتحويل هذا النوع المتزايد من النفايات إلى مصدر ثمين لهذا المعدن، مع تجنب العمليات الكيميائية الخطرة والملوّثة التي تهيمن على هذه الصناعة اليوم.
ويقول المؤلف الرئيسي للدراسة أنزي زوبانك الباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه بجامعة هلسنكي، في حوار خاص بالجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني، "في طريقتنا الجديدة، تُعتبر المواد المستخدمة في معالجة الفضة غير مكلفة ومواد مستخرجة من نفايات في بعض الأحيان. لذلك، فإن سعرها قريب من سعر العمليات المُستخدمة بالفعل".
ونشرت نتائج الدراسة التي أجراها الباحثون لاستخراج معدن الفضة من النفايات الإلكترونية في دورية "كيميكال إنجنيرنغ جورنال" العلمية.
معدن ثمين تحت ضغط الطلب
تعد الفضة من بين المعادن الأكثر استخداما في كثير من المجالات، فهي عنصر أساسي في صناعة مكونات دوائر أجهزة الحاسوب والهواتف المحمولة، وتستخدم في الطب لخصائصها المضادة للبكتيريا، كما أنها عنصر أساسي من مكونات صناعة الألواح الشمسية، ومن ثم فإن توفرها يحفّز التحول نحو مزيد من الاعتماد على الطاقات المتجددة والنظيفة.
لكن هذا الانتشار الواسع أدى إلى زيادة الطلب على هذا المعدن، إذ تشير التقارير المتخصصة إلى تجاوز الطلب العالمي على الفضة العرض بنسبة 16% في عام 2023، في حين ارتفع سعرها 6 أضعاف خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية.
كذلك أدى ارتفاع الطلب على الفضة إلى تضاؤل الاحتياطيات الطبيعية القابلة للاستغلال والتي لم يبق منها سوى ما يكفي لحوالي 20 عاما فقط بمعدل الاستخراج الحالي. ومع ذلك، فإن إنتاج الفضة السنوي من مصادر مُعاد تدويرها ما زال متواضعا نسبيا إذ لم يمثل سوى 17% من كميات الفضة المستخرجة في عام 2023.
أحد الأسباب التي تعرقل تطور هذه النسبة هي الطرق المستخدمة حاليا لإعادة استخراج الفضة من النفايات التي تعتبر مكلفة وملوثة في الوقت نفسه، فعمليات المعالجة الحرارية تستهلك طاقة هائلة وتتضمن حرق النفايات في درجات حرارة عالية جدا لاستخراج المعادن.
إعلان
وتنتج طرق المعالجة الكيميائية لاستخراج الفضة من النفايات مواد كيميائية خطرة مثل مادة السيانيد المعروفة بسمّيتها وحمض النتريك المُسبب للتآكل والأمونيا الضارة.
ويتطلب استخراج كيلوغرام واحد من هذا المعدن الثمين حوالي 170 كيلوغراما من السيانيد المُذاب في 500 متر مكعب من الماء، مما قد يتسبب في تسرب هذه المادة في المجاري ويرفع مخاطر حدوث كارثة بيئية كبيرة، مثل تلك التي حدثت في منطقتي بايا الرومانية عام 2000 وتيانجين بالصين عام 2015.
زيوت الطهو لفصل الفضة
في الدراسة الجديدة، طوّر فريق من الباحثين من جامعة هلسنكي طريقة مختلفة جذريا لاستخراج معدن الفضة من النفايات الإلكترونية تتميز بكونها آمنة ومستدامة وغير مكلفة.
الفكرة التي تقوم عليها هذه الطريقة المبتكرة بسيطة نوعا ما لكنها مدهشة في الوقت نفسه، وتتمثل في استخدام الأحماض الدهنية الموجودة في الزيوت النباتية لإذابة الفضة.
اعتمد الباحثون للإذابة، وفق ما ورد في الدراسة، على الأحماض الدهنية غير المشبعة الأكثر شيوعا مثل حمض الأوليك الموجود في زيت الزيتون، وحمض اللينوليك في زيت دوار الشمس.
تتميز هذه المواد بوفرتها إذ يتجاوز الإنتاج العالمي من الزيوت النباتية 15 مليون طن سنويا، إضافة إلى كونها قابلة للتحلل الحيوي وغير سامة ويمكن استخلاصها حتى من النفايات، مثل زيت الطهو المستعمل، وذلك ما يجعلها متوافقة تماما مع الاقتصاد الدائري.
وأوضح زوبانك أن الطريقة الجديدة "تعمل كمّيا باستخدام تسخين خفيف، ومن ثم تتميز باستهلاك منخفض للطاقة وبكفاءتها العالية".
تتم العملية في ظروف معتدلة، مع تسخين خفيف إلى 60 درجة مئوية وبإضافة مواد غير مضرة بالبيئة لتسريع استخراج الفضة. تلعب الأحماض الدهنية دورا مزدوجا أساسيا، فهي تُشكل الوسط السائل الذي تذوب فيه الفضة وتقوم جزيئاتها بتثبيت أيونات الفضة المتكونة حديثا، وذلك يمنعها من التفاعل ويحافظ عليها في المحلول.
مكنت الطريقة المبتكرة، وفق الدراسة، من إذابة ما يصل إلى 4.6% من وزن الفضة نسبة إلى وزن الأحماض الدهنية المستخدمة. وذلك يعني أن كيلوغراما واحدا من الزيوت بإمكانه إذابة 46 غراما من الفضة وهي قدرة تحميل هائلة مقارنة بالمذيبات التقليدية. وقد بلغت سرعة التفاعل باستخدام الطريقة الجديدة حوالي ضعف أسرع طريقة تقليدية مستخدمة اليوم.
أثبت الباحثون نجاعة هذه الطريقة المبتكرة على نفايات حقيقية، تحتوي على أجزاء من البلاستيك المُغلف بالفضة من لوحات مفاتيح الحاسوب. فمن 13 غراما من البلاستيك المعالج تم استخلاص 677.8 ملغ من أملاح الفضة، وبعد الاختزال تم الحصول على 130.5 ملغ من الفضة المعدنية النقية، بنسبة إنتاج تقدر بحوالي 98%.
آفاق جديدة
يفتح هذا البحث آفاقا واعدة لإدارة النفايات الإلكترونية وتأمين إمدادات المعادن الإستراتيجية.
وأوضح أنزي زوبانك، في حديثة مع الجزيرة نت، أن تطوير هذه التقنية "بلغ حاليا مستوى عاليا من الجاهزية التكنولوجية، إي إنه قد تم التحقق من صحتها في المختبر". لكنه أضاف أنه "لم تُجرَ أي محاولة لتوسيع نطاقها بعد، لكننا نعتقد أنه من خلال إجراء مزيد من الأبحاث، يُمكن تطوير العملية بشكل أكبر".
إعلان
لا يستبعد الدكتور زوبانك أن "يؤدي المزيد من البحث إلى اكتشاف ظروف مناسبة لاستخلاص معادن نبيلة أخرى". ويؤكد أن "الألواح الشمسية تحديدا ستكون الهدف التالي لهذه العملية، نظرا لحجم إنتاجها الهائل، وكذلك حجم الكميات التي يُتخلص منها".
ومع اقتراب ملايين الأطنان من الألواح من نهاية عمرها الافتراضي في العقود القادمة، فإن إيجاد طريقة فعالة لاستعادة الفضة التي تحتويها سيكون أمرا بالغ الأهمية.
أخبار متعلقة :