في موازاة النظرة التقليدية للعمل، القائمة على الحضور المباشر للموظفين إلى مقرات عملهم، وخلال أوقات معينة يتم رصدها بدقة من خلال آليات البصمة المختلفة، تبرز نظرية أخرى للعمل تقوم على معيار الإنتاجية بعيداً عن جدوى الحضور والدوام، خصوصاً في زمن الذكاء الاصطناعي، الذي يتيح أداء مهام العمل من دون الالتزام بدوام معين، أو حتى عدم الحضور نهائياً إلى أماكن العمل، إلا في بعض الحالات القليلة التي تفترض حضوراً شخصياً لإنجاز الاعمال.
استناداً إلى هذه النظرية الجديدة، يتوقع بيل غيتس، أن تؤدي تطورات الذكاء الاصطناعي إلى تقليص أسبوع العمل إلى يومين فقط خلال العقد المقبل. ويؤكد غيتس في رؤيته بهذا الصدد، أن «الغاية من الحياة لا تقتصر على أداء الوظائف، بل يمكن للتكنولوجيا أن تحرر الإنسان ليركّز على الأعمال الإبداعية والمهام الإنسانية الأعمق».
هذا التحول المحتمل في مفاهيم العمل التقليدي، يفتح الباب واسعاً، بحسب أصحاب النظرية الجديدة، «أمام التفكير الجاد في كيفية إعادة هيكلة حياتنا المهنية والشخصية، للاستفادة القصوى من وقت الفراغ المتزايد، والتركيز على تطوير المهارات التي تواكب هذا التقدم التكنولوجي».غيتس يتوقع يومي عمل بالأسبوع فقط ... و«OECD» ترجح خفض ساعات العمل %80
وبينما يُفسر البعض رأي غيتس بأنه يحمل بُعداً تجارياً، تدعم منظمات عالمية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) رأي غيتس، إذ خلصت دراسات المنظمة إلى أن ساعات العمل التقليدي ستنخفض بنسبة قد تصل إلى 80 في المئة في المستقبل. مع الإشارة إلى أن دوام «الأونلاين» حول العالم خلال جائحة «كورونا» قد يدعم هذا التوجه، رغم أن التجربة تحتاج إلى ضوابط ومعايير لضمان نجاحها.
في المقابل، يتمسك أصحاب النظرة التقليدية للعمل «بربط قيمة الإنجاز بوجودنا في المؤسسات، استناداً إلى أن الأداء الأمثل يكون محكوماً بضوابط الإشراف المباشر عليه ومتابعته عن كثب»، خصوصاً أن متابعة الموظفين تكون متاحة في أماكن العمل، على عكس ما هو عليه الوضع في العمل عن بعد.
بين هاتين النظرتين يرى عضو هيئة التدريس في الجامعة الدولية د. جاسم الجزاع، أن مسألة ساعات العمل والإثبات الزمني عبر نظام البصمة لاتزال تُثير الكثير من اللغط داخل المؤسسات الحكومية، في وقت يجب أن نعيد فيه طرح السؤال الأساسي: هل العلة في «البصمة» أم في طبيعة العمل نفسه؟الجزاع: الإنتاجية في العمل هي المعيار... والأداء لا يُقاس بالدوام بل بالأثر المحقق
ويضيف د. الجزاع أن البصمة ليست عيباً بحد ذاتها، بل هي أداة ضبط. لكن الإشكالية تكمن في الاستخدام الموحد لهذه الأداة على أعمالٍ متباينة في طبيعتها وجدواها. هناك فرق جوهري بين من يعمل في وظيفة ميدانية أو إبداعية، ومن يمارس مهام روتينية يومية يمكن قياسها زمنياً. إخضاع الجميع لذات المعيار الزمني فيه ظلم تنظيمي، ويؤدي غالباً إلى نتائج عكسية: إنتاجية منخفضة، تحايل على النظام، وانعدام الثقة بين الموظف والمؤسسة.
وفي هذا السياق، لا بد أن تنتقل الأجهزة الحكومية من ثقافة «الرقابة الزمانية» إلى ثقافة «الرقابة الإنتاجية». فالأداء لا يُقاس بالجلوس خلف المكتب، بل بما تحققه من أثر. وربما يكون الأجدى التفكير في نماذج عمل مرنة تعتمد على قياس المخرجات لا على تقييد الحضور.
ويعتبر د. الجزاع أن الكويت تمتلك فرصة ذهبية لصناعة مستقبل إداري جديد قائم على الكفاءة والطموح، لا على الأقدمية وحدها. إلا أن الكثير من الكفاءات الشابة تصطدم بواقع مؤسسي غير مشجع، تتراجع فيه المبادرات، مضيفاً أن القيادات الشابة تحتاج إلى بيئة حاضنة: كأنظمة تدعم المبادرة، وثقافة مؤسسية تتقبل التجريب، ومساحات تمكّنها من صناعة القرار. فلا يُنتظر من الحكومة أن تصنع القيادات الشابة فحسب، بل أن تفسح لها الطريق، وتمنحها الأدوات، وتوفر لها الحماية من تغوّل البيروقراطية.
ويقول: «في زمن تتغير فيه أدوات الإدارة كل خمس سنوات، من غير المنطقي أن تبقى المؤسسات تُدار بعقليات من عقد مضى. الشباب لا يطلبون امتيازات... بل يطلبون منصة وظيفية يثبتون فيها جدارتهم».
ضرورة لا ترف
ويشير إلى أن أكثر ما يثير القلق اليوم هو تردد بعض الجهات الحكومية في إدماج الذكاء الاصطناعي بمنظومات العمل. رغم أن الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفاً تقنياً، بل ضرورة استراتيجية لإعادة هندسة العمليات، وتحسين الكفاءة، وتقليل الهدر. علماً أن الجهات التي لا تندمج في موجة التحوّل الذكي، ستجد نفسها خارج السياق العالمي بعد سنوات قليلة. فلا يمكن أن نستمر في إدارة موازنات ضخمة ونفوس بشرية كثيرة، بأدوات يدوية أو عبر ملفات ورقية أو حتى أنظمة متقادمة. والمطلوب على الأقل تبنّي عقلية التطوير، وإدراك أن الذكاء الاصطناعي قادر على اختصار سنوات من العمل الإداري، وتحسين تجربة المواطن، وتمكين الموظف من أداء دوره بفعالية.
فلسفة جديدة في الإدارة
يقول د. الجزاع إن الكويت ليست بحاجة إلى قوانين جديدة بقدر ما تحتاج إلى فلسفة جديدة في الإدارة. فلسفة تعي أن الوقت ليس مؤشراً للإنتاج، وأن الشباب ليسوا خطراً بل فرصة، وأن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الإنسان، بل أداة تمكّنه. وأن المستقبل لن ينتظر أحداً، والمؤسسات التي لا تتغيّر من الداخل... فستُغيّر من الخارج أو تُستبدل.
«الخدمة المدنية»: الدوام عن بعد وتقليص العمل غير مطروحين
أكد مصدر في ديوان الخدمة المدنية لـ«الجريدة» أن مبدأ الاستغناء عن الدوام التقليدي والاتجاه للعمل عن بعد غير منظور في الوقت الحالي.
وأشار المصدر إلى أن التركيز أكثر يصب باتجاه ضبط الدوام التقليدي خصوصاً مع التعديلات الأخيرة في القرارات بشأن قواعد وأحكام وضوابط العمل الرسمي، التي أضافت بصمة التواجد بين بصمتي الحضور والانصراف.
وبين المصدر، أنه خلال فترة انتشار جائحة كورونا، تم تحويل أقسام في الجهات الحكومية للعمل عن بعد باستخدام آليات الاتصال التكنولوجية، لافتاً إلى أن تلك الآلية كانت بشكل مؤقت في بعض الجهات حتى لا يتوقف العمل وتعطيل مصالح الناس.
وذكر أن «الديوان» يعمل على استحداث وظائف تدعم تطوير العمل الحكومي واستيعاب أكبر عدد من الخريجين من المواطنين وفق احتياجات الجهات والمؤسسات الحكومية، مبيناً أنه من الممكن التوجه مستقبلاً للعمل عن بعد، لكن ذلك يحتاج إلى دراسة مطولة وبحث طبيعة الأعمال التي يمكن إنجازها عن بعد.
وفيما يتعلق بتقليص أيام العمل، أكد المصدر انه غير مطروح حالياً أي تقليص في أيام العمل.
أخبار متعلقة :