خالف النبي صلي الله عليه وسلم- بذكائه وحنكته كل توقعات سادة قريش. فلم يتجه صوب المدينة مباشرة . بل ذهب إلي جهة الجنوب حتي بلغ جبلاً وعراً يُقال له "جبل ثور". يوجد في أعلاه غار يصعب الوصول إليه. ويمكنهم المكوث فيه إلي أن يهدأ الطلب.
وقادت الجهود قريشاً إلي غار ثور. وصعدوا إلي باب الغار وبات الخطر وشيكاً وبلغت أصواتهم سمع أبي بكر فقال رضي الله عنه: "يا رسول الله. لو أن أحدهم نظر إلي قدميه لأبصرنا". فأجابه الرسول -صلي الله عليه وسلم- إجابة الواثق المطمئنّ بموعود الله:پ"ياپأبا بكر. ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟"پوصدق ظنّه بربه. فإن قريشاً استبعدت وجود النبي -صلي الله عليه وسلم- في هذا المكان. وانصرفت تجرّ أذيال الخيبة.
وأقام النبي -صلي الله عليه وسلم- في الغار ثلاث ليالي. وكان عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما يأتي كل يوم ليبلغهما أخبار قريش. وعامر بن فهيرة يأتي بالأغنام ليشربا من لبنها. ويخفي آثار عبدالله بن أبي بكر. حتي جاءپعبدالله بن أريقطپفي الموعد المنتظر. ومعه رواحل السفر.
انطلق الركب إلي المدينة متّخذاً طريق الساحل. وظلوا يسيرون طيلة يومهم. وأبو بكر رضي الله عنه يمشي مرّة أمام النبي -صلي الله عليه وسلم-. ومرّة خلفه. ومرّة عن يمينه. ومرّة عن يساره. خوفاً عليه من قريش. حتي توسّطت الشمس كبد السماء. فنزلوا عند صخرة عظيمة واستظلّوا بظلّها. وبسطپأبو بكر رضي الله عنه المكان للنبي -صلي الله عليه وسلم- وسوّاه بيده لينام. وبينما هم كذلك إذ أقبل غلام يسوق غنمه قاصداً تلك الصخرة. فلما اقترب قال له أبوبكر رضي الله عنه: لمن أنت يا غلام؟. فقال: لرجل من أهل مكة. فقال له: أفي غنمك لبن؟ فقال: نعم. فحلب للنبي -صلي الله عليه وسلم- في إناء. فشرب منه حتي ارتوي.
وفي هذه الأثناء استطاع أحد المشركين أن يلمح النبي -صلي الله عليه وسلم- من بعيد. فانطلق مسرعاً إليپسراقة بن مالك وقال له: ياپسراقة. إني قد رأيت أناساً بالساحل. وإني لأظنّهم محمداً وأصحابه. فعرفپسراقةپأنهم هُم. ولكنّه أراد أن يُقنع الرجل بأنّه واهم حتي يفوز بالجائزة وحده. ولبث سراقة في المجلس ساعة حتي لا يثير انتباه من معه. ثم تسلّل من بينهم وأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً. فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتي سقط. فتشاءم من سقوطه. وعاد مرة أخري وامتطي فرسه وانطلق. فسقط مرة ثانيةً وتعاظم شؤمه. لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته هواجسه ومخاوفه. ولما اقترب من النبي -صلي الله عليه وسلم- غاصت قدما فرسه في الأرض إلي الركبتين. وتصاعد الدخان من بينهما. فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله. فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم. وكتب له النبي -صلي الله عليه وسلم- كتاب أمان ووعده بسواريْ كسري. وأوف پسراقة بوعده فكان لا يلقي أحداً يبحث عن النبي -صلي الله عليه وسلم- إلا أمره بالرجوع. وكتم خبرهم حتي وصلوا إلي المدينة.
وفي طريقهم إلي المدينة نزل الرسول -صلي الله عليه وسلم- وصاحبه بخيمةپأم معبد. فسألاها إن كان عندها شيء من طعامي ونحوه. فاعتذرت بعدم وجود شيء سوي شاة هزيلة لا تدرّ اللبن. فأخذ النبي -صلي الله عليه وسلم- الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها. ثم حلب في إناء. وشرب منه الجميع. وكانت هذه المعجزة سبباً في إسلامها هي وزوجها.
وانتهت هذه الرحلة بما فيها من مصاعب وأحداثي. ليصل النبي -صلي الله عليه وسلم- إلي أرض المدينة. ويستقبله فيها أصحابه الذين سبقوه بالهجرة. وإخوانه الذين أعدّوا العدة لضيافته في بلدهم.
يقال إن رسول الله - هاجر من مكة إلي المدينة ليلة الجمعة في اليوم السابع والعشرين من صفر من السنة الثالثة عشر للبعثة. والذي يوافق اليوم الثالث عشر من الشهر التاسع من عام 622 ميلادية. ولبث في غار ثور ليلة الجمعة والسبت والأحد. ومن ثمَّ انطلق ليلة الإثنين في الأول من الشهر الثالث من السنة الرابعة عشر من البعثة. الموافق لليوم السادس عشر من الشهر التاسع لعام 622 ميلادية إلي المدينة المنورة.. ووصل إلي قباء في يوم الإثنين. الثامن من الشهر الثالث للعام الرابع عشر من البعثة. الموافق للثالث والعشرين من الشهر التاسع لعام 622 ميلادية. ووصل المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول.. ويقدّر طريق الهجرة النبوية بـ 380 كيلومترًا قطعها الركب النبوي في ثمانية أيام.
يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل
أخبار متعلقة :