جنوب سيناء- حين كان إسماعيل في الخامسة من عمره، لم تكن أنشطته اليومية تتعدى مساعدة أبيه في سقي الإبل ومعاونة أمه في نقل الحطب والبحث مع رفاقه عن ألعاب بدائية للتسلية، أما الآن وهو على مشارف الأربعين فقد بات مندهشا من التغيرات التي حلت على الحياة البدوية وبخاصة بين الأجيال الجديدة.
يحاول إسماعيل، الذي ينتمي لقبيلة الجبالية ويعيش بمنطقة سانت كاترين في جنوب سيناء، أن يقنع ابنتيه -اللتين لم تتجاوزا العشر سنوات- بخطورة استخدام الألعاب الإلكترونية لساعات طويلة، "لا تفعلان شيئا طيلة اليوم سوى التحديق في الهاتف المحمول"، هكذا يقول بينما يتذكر طفولته التي وصفها بالمتواضعة.
يتراجع الرجل البدوي عن وصف طفولته بالمتواضعة ليقول إنها كانت مناسبة للبيئة المحيطة به، فمن الطبيعي -وفق رأيه- أن ترتبط أنشطة الأطفال الذين يسكنون الصحراء بتراثهم. أما غير الطبيعي هو أن يكونوا منساقين وراء ثقافات أخرى، وبسبب ما يتابعه من تغيرات على محيطه لا يخفي إسماعيل مخاوفه من اندثار التراث البدوي بعد عقود قليلة على يد الأجيال الجديدة.
مخاوف الرجل البدوي تبدو متفهمة، ثمة مظاهر تطور أثرت على معيشة أبناء قبائل سيناء، جعلت الخيمة البدوية، التي دُقت أوتادها على مدى مئات السنين، في مهب رياح مجاراة العصر، لتمسي الخيمة بما تطويه من تراث مجرد فلكلور لقضاء وقت ممتع بالصحراء واسترجاع أجواء الماضي لا مسكن يشهد حياة.
المرعى ولى
مظاهر التطور التي حلت على الحياة البدوية بسيناء عديدة، وربما أكثرها وضوحا هي نزوح أبناء القبائل للعيش بالتجمعات السكنية -سواء كانت مدنا أو قرى- بعيدا عن الترحال بالخيام في نواحي متفرقة بحثا عن المراعي كحال الأسلاف.
إعلان
في جنوب سيناء، صار البدوي، الذي يسكن خيمة ويمتهن الرعي، رجلا متمسكا بالندرة، ذلك يبدو مبررا بالنظر إلى الطبيعة السياحية للمنطقة، فالمدن السياحية، مثل شرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا، التي تجذب السائحين للزيارة جذبت أيضا أعدادا كبيرة من البدو على مدى العقود الثلاثة الماضية للانخراط بالعمل في قطاع السياحة.
يقول صالح، وهو من قبيلة المزينة ويعيش بمدينة دهب، إن أعدادا قليلة من أبناء قبيلته ما زالوا متمسكين بالصورة القديمة لحياة البادية وتتركز مناطق رعيهم في وسط سيناء لا الجنوب، أما شمال سيناء فيتجه إلى الطبيعة المتمدنة بسبب الأجيال الشابة التي تخرجت من الجامعات.
وهناك سبب آخر يجعل بدو الشمال يميلون إلى الاستقرار بعيدا عن الترحال وهو امتهان أعداد منهم للزراعة خاصة زراعة الزيتون والخوخ والنباتات العطرية والطبية.
فمنذ أكثر من 10 سنوات، يعمل صالح في قطاع السياحة حيث يتولى قيادة سيارة دفع رباعي لنقل الزوار إلى قلب الصحراء، حيث الوديان والجبال التي تعد مقصدا سياحيا، وهو لا يسكن الخيام كأجداده بل شقة بإحدى البنايات التي طرحتها الحكومة في إطار مشروعات للإسكان الاجتماعي بتسهيلات في السداد.
ثوب في طور الاندثار
قديما كان رداء المرأة البدوية يتميز بخصوصية ثقافية، أما الآن فنساء القبائل يرتدين ملابس عادية تشبه نساء محافظات وادي النيل (الدلتا والصعيد)، فقط تتمسك الجدات بالزي التقليدي الذي يتسم بالألوان الزاهية والتطريزات اليدوية.
وتقول سعيدة، وهي سيدة خمسينية تعيش في وادي غزالة القريب من مدينة نويبع، إن كثيرا من نساء سيناء أصبحن يرتدين الملابس العادية بينما الزي التقليدي بات مقتصرا على كبار السن وأيضا يظهر في المناسبات الاجتماعية.
وتحتاج الحياكة اليدوية للثوب البدوي الواحد مدة طويلة تصل لنحو شهرين، كما تؤكد سعيدة، إذ تستغرق التطريزات المتنوعة وقتا، كما أن هناك ملحقات أو لوازم عديدة للثوب مثل "القنعة" وهي غطاء للرأس، و"البرقع" وهو قناع للوجه مصنوع من القطع المعدنية، و"المقوط" وهو حزام حول الخصر، و"المريرة" وهو شريط يوضع فوق الحزام يصنع من شعر الماعز، مما يجعل الرداء بمشتملاته مرتفع الثمن ويقلل أيضا من الإقبال عليه مقابل المصنوع آليا.
في المقابل، يبدو الرجل البدوي أكثر محافظة على زيه التقليدي من امرأته، إذ يرتدي الجلباب والسروال الفضفاض وينتعل حذاء خفيفا ولا يتحرر من هذا الزي إلا في أوقات العمل إذا كان يشتغل لدى جهة حكومية أو أثناء الدراسة.
وتقول سعيدة إن الملابس الرجالية بسيطة في تفاصيلها ومريحة في الحركة وليست مرتفعة الثمن بالتالي لا يسعى الرجل لاستبدالها بأخرى مثلما حدث مع المرأة.
ولم يتغير الملبس فقط في حياة المرأة البدوية، بل تغيرت نظرتها لعدد الأسرة، فمثلا سعيدة هي أم لـ9 أبناء وجدة للعدد نفسه، أما أولادها المتزوجون فأكثرهم عددا من أنجب 4 أطفال، وتلخص السيدة الخمسينية ما جرى "الدنيا تغيرت.. كنا ننجب كثيرا لأن الموت كان يأخذ كثيرا، والأب كان محتاجا لمن يساعده في العمل".
ما فعله الإنترنت بالبادية
يقول إسماعيل إنه اشترى لطفلته جنة هاتفا محمولا حين بلغت الثلاث سنوات وكذلك فعل مع ابنته الثانية، وغيره الكثير من أبناء القبائل يفعل ذلك مع أبنائه، صحيح هو نادم على ذلك لأن الهاتف صار بديلا للحياة الحقيقية بالنسبة لابنتيه لكنه لم يعد في إمكانه التراجع عن ذلك.
إعلان
هو نفسه لا يمكنه الاستغناء عن الهاتف أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الأخيرة تحديدا تفيده في الترويج لعمله كدليل لزوار الصحراء خلال رحلات السفاري.
لكنه يحاول أن يكون متوازنا في استخدام التكنولوجيا بعكس بعض أصدقائه، ويقول "نلتقي كل فترة ونخرج للصحراء فيما يفترض أنه خلوة ولكن يكون المشهد غريبا جدا، نرتدي جميعنا الزي البدوي ونجلس داخل خيمة ولكن الكل منشغل بالتحديق في هاتفه المحمول طيلة الجلسة"، ويضيف ساخرا "يشترط الأصدقاء أن يكون التخييم في مكان قريب داخل نطاق تغطية شركات الاتصالات حتى لا ينقطع عن هواتفهم الإنترنت".
ورغم ذلك فأكثر ما يمثل خطورة بالنسبة لإسماعيل هو تأثير الإنترنت على طبائع الشخصية البدوية، ويوضح "قديما إذا حدثت مشكلة بين طرفين يكون هناك احترام للعادات واحتكام تام للمجلس العرفي. أما الآن فصحيح ما زال المجلس العرفي هو الحاكم لكن أيضا يلجأ الطرفان للفيسبوك كساحة لإفشاء الأسرار بل والمعايرة".
تحديث المجتمعات البدوية
بدأ اهتمام جامعة عين شمس بدراسة المتغيرات على المجتمع البدوي عبر إعداد دراستين، أولهما حملت عنوان "تحديث المجتمعات البدوية وعلاقته بالثوابت والمتغيرات في الموروث الثقافي الشعبي لبدو سيناء".
وأظهرت الدراسة، التي أشرف عليها معهد بحوث الصحراء، وجود علاقة ما بين التغير في النشاط الاقتصادي والتطور التكنولوجي، وبين حدوث تغيرات اجتماعية وثقافية سواء مادية وغير مادية.
بناء على ذلك فإن محافظة شمال سيناء ذات مستويات التعليم المرتفعة والانفتاح على العالم الخارجي هي أكثر تحديثا من محافظة جنوب سيناء، وفق النتائج البحثية.
وأوضحت الدراسة التي أعدها 3 باحثين أن التحديث قد يعمل على إحداث تغير في النظام الاجتماعي القائم عبر إضعاف القيم المتوارثة واستبدالها بطائفة من مظاهر السلوك الجديدة.
وحذرت من كون مظاهر السلوك الجديدة بتعارضها مع القيم المتوارثة قد تؤدي إلى فقدان وضوح الرؤية أمام مسيرة المجتمع وخلق حالة من التخبط المجتمعي.
أما الدراسة الثانية التي أعهدها معهد الدراسات والبحوث البيئية، فقد ركزت على أثر التكنولوجيا الحديثة في تحديث المجتمعات البدوية، كاشفة أن نحو 80% من البدو لديهم هواتف محمولة وحسابات على صفحات التواصل الاجتماعي.
وبيّنت أن البدو يقضون وقتا طويلا في استخدام الإنترنت مما أدى إلى تغيرات -وصفتها الدراسة بالجذرية- في طباع وعادات تلك المجتمعات، ومنها ضعف العلاقات الاجتماعية التي كان المجتمع البدوي يمتاز بمتانتها.
أخبار متعلقة :